موقف قوم نوح من دعوة نبيِّهم نجمله في النقاط التالية:
أولاً: إظهار عدم رغبتهم السماع: وذلك في قوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: ٧]، قال ابن جزي: "فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي: جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه، أو لئلا يراهم، ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إعراضهم"([1]). "وعبَّر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها([2]).
وفي قوله سبحانه: {كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ}، فهم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم ويستغشوا ثيابهم مرة واحدة، أو في بعض الأحيان، وإنما كان ذلك عند كل دعوة من دعواته لهم.
ثانياً: الإصرار على عدم قبول الحق: وذلك في قوله: {وَأَصَرُّوا} أي: " أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق"([3])، والإصرار: "التعقد في الذنب، والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه"([4]).
يقول الآلوسي: "(وأصروا) أي: أكبوا على الكفر والمعاصي، وانهمكوا وجدّوا فيها، مستعار من: أصرّ الحمار على العانة([5])،
ثالثاً: الاستكبار على الداعية والدعوة والمستجيبين للدعوة: وذلك في قوله: {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} يقول الزجاج: "(واستكبروا): أخذتهم العزة من اتباع نوح عليه السلام"([6]). يقول الراغب الأصفهاني: "والكبر والتكبر والاستكبار تتقارب، فالكِبْر: الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره. وأعظم التكبر: التكبر على الله بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة"([7]).
ومن صور التكبر كذلك ما بينه الله عنهم بقوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}[الشعراء:111]. وقال تعالى في سورة هود: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27].
رابعاً: الفرار من دعوة التوحيد: كما قال سبحانه: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: ٦]، قال الآلوسي:"وفي الآية مبالغات بليغة، وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه، فعبَّر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء، وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات"([8]).
خامساً: إتباع الكبراء والزعماء: فلم يكونوا يبحثون عن الحق، ولا يطلبونه، وإنما يقلدون في ذلك، ويجاملون، ويتبعون الهوى والمصلحة الدنيوية العاجلة، دون النظر فيما فيه فلاحهم أو خسارتهم، والمهم لديهم أن يكون المتبوع ذا مال وولد وجاه وسلطان، كما قال سبحانه: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: ٢١ ]، قال البيضاوي: "وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد، وأدت بهم إلى الخسار"([9]).
سادساً: التآمر على الدعوة والدعاة:
كما أخبر سبحانه عنهم بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: ٢٢]، يقول الشوكاني: "واختلف في مكرهم هذا ما هو؟ فقيل: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، وقيل: هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد، حتى قال الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم، وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: لا تذرن آلهتكم، وقيل: مكرهم: كفرهم"([10]).
فمكر قوم نوح يشمل أمرين:
الأول: التآمر على دعوة نوح، والصد عنها، والتواصي بالاستمرار على الشرك والكفر: كما في قوله تعالى عنهم:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: ٢٣]. يقول سيد قطب: " بهذه الإضافة: {آلِهَتَكُمْ} لإثارة النخوة الكاذبة، والحمية الآثمة في قلوبهم، وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا، فخصوها بالذكر؛ ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللة الحمية والاعتزاز"([11]).
والثاني: التآمر على نوح عليه السلام، والسعي في إيذائه: وأخذ ذلك التآمر والإيذاء عددا من الصور:
1- اتهامه بالجنون وزجره والتربص به: كما في قوله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9].
واتهموه بالجنون "لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه الصلاة والسلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين، وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا، فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور والرشد، وما هم عليه جهل وضلال مبين، وقوله: {وَازْدُجِرَ} أي: زجره قومه وعنَّفوه عندما دعاهم إلى الله تعالى، فلم يكفِهم -قبَّحهم الله- عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه، حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه"([12]).
وقالوا: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون25]."أي ارفعوا عنه العقوبة بالقتل وغيره احتراما له ولأنه مجنون غير مؤاخذ بما يتكلم به. فلم يبق بزعمهم الباطل مجادلة معه لصحة ما جاء به، فإنهم قد عرفوا بطلانه، وإنما بقي الكلام هل يوقعون به أم لا؟ فبزعمهم أن عقولهم الرزينة اقتضت الإبقاء عليه وترك الإيقاع به مع قيام الموجب، فهل فوق هذا العناد والكفر غاية؟"([13]).
2- التهديد بالرجم بالحجارة: كما في قوله تعالى: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء/116].
3- انتقاد بشريته: قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا}[هود: ]. وقال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:24].
4- اتهموه بالجدال: قال تعالى عنهم: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود: ].
5- استعجالهم العذاب: قال تعالى عنهم: {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: ].
6- اتهموه بالضلال: كما قَالَ تعالى عنه: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60 ].
7- التهكم والسخرية: قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
8- التكذيب لنوح -عليه السلام-: كما قال الله عنهم : {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} [الأعراف: ٦٤]. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[هود ].
9- لم يؤمن له إلا قليل: كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود].
([1]) التسهيل لعلوم التنزيل 4/150،149، وانظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور 14/196،195 .
([2]) التحرير والتنوير، لابن عاشور 14/195 .
([3]) التفسير الكبير 30/121 .
([4]) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني ص279 .
([5]) العانة: الأتان (أنثى الحمار). لسان العرب، لابن منظور 13/300، (عون)، القاموس المحيط، للفيروزآبادي ص1571 .
([6]) معاني القرآن وإعرابه 5/228 .
([7]) المفردات في غريب القرآن ص421 .
([8]) روح المعاني 29/89 .
([9]) أنوار التنزيل 5/395 .
([10]) فتح القدير 5/367 .
([11]) في ظلال القرآن 6/3716 .
([12]) تيسير الكريم الرحمن 825.
([13]) تيسير الكريم الرحمن 551.