قال الله تعالى:
}فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ{ [الأنعام:125].
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامة على الخير.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وقالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: "نور يقذف فيه، فينشرح له وينفسح". قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" [تفسير عبد الرزاق (1/210) ورواه الطبري في تفسيره (12/99) من طريق عبد الرزاق به].
يقول تعالى - مبينًا لعباده علامة سعادة العبد وهدايته، وعلامة شقاوته وضلاله -: إن من انشرح صدره للإسلام، أي: اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحيي بضوء اليقين، فاطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذًا به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومَنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا من الأعراب من أهل البادية من مدلج: ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. [رواه الطبري في تفسيره (12/104)] .
وقال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا، والإسلام واسع.
وقال مجاهد والسدي: {ضَيِّقًا حَرَجًا} شاكًّا.
وقال عطاء الخُراساني: {ضَيِّقًا حَرَجًا} ليس للخير فيه منفذ.
وقال ابن المبارك: عن ابن جريج: {ضَيِّقًا حَرَجًا} بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله.
وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء.
وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الأوزاعي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقًا أن يكون مسلمًا.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته.
فعلامة من يرد الله أن يضله، أن يجعل صدره ضيقًا حرجًا. أي: في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين، قد انغمس قلبه في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، لا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي: كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه.
قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، فكما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقًا حرجًا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيغويه ويصده عن سبيل الله.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: }الرِّجْسَ{: الشيطان.
وقال مجاهد: }الرِّجْسَ{: كل ما لا خير فيه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: }الرِّجْسَ{: العذاب.
وهذا سببه، عدم إيمانهم، هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان لا يعول، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فسييسره للعسرى.
وهذه الآية تصور حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس، فمن يقدر اللّه له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - يشرح صدره للإسلام فيتسع له ويستقبله في يسر ورغبة، ويتفاعل معه، ويطمئن إليه ويستروح به ويستريح له.
ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه - يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ .. فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله، كأنما يصعد في السماء.. وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية، من ضيق النفس، وكربة الصدر، والرَّهَقَ المضني في التصعد إلى السماء!
فالقرآن - هنا - يصور الحقيقة الفعلية التي يتراءى فيها التشابك بين مشيئة اللّه وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله.
تلك الحقيقة التي تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي، بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم.
فاللهم اشرح قلوبنا بالإسلام، ووسع صدورنا بالايمان.