سأل رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - كيفَ سَمِعْتَ رَسولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - يقولُ في النَّجْوَى؟ قالَ: "يَدْنُو أحَدُكُمْ مِن رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عليه، فيَقولُ:عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ! ويقولُ:عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ! فيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يقولُ: إنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، فأنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ".
(صحيح البخاري: 6070)
قال الحافظ ابن حَجَر: المراد من النجوى في الحديث: المناجاة التي تقع من الرب - سبحانه وتعالى - يوم القيامة مع المؤمنين.
وقوله (يَدْنُو أحَدُكُمْ مِن رَبِّهِ) فالله - تعالى - يقرِّبُ بنفسه إلى مَن يشاء مِنْ خَلْقِهِ، وهو فوق عرشه، عَالٍ على خلقه.
وهذا الحديث ظاهر في أن العبد يدنو من ربه، بل هو نص صريح في ذلك، فصرفه عن ظاهره تحريف لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلاعب به، يعد من عظائم الذنوب، يجب على المؤمن التحرز منه.
ولا يلزم أن يكون كل نص في القُرب يراد به قُرب الله - تعالى - بنفسه، بل يُنظر في النص الوارد في ذلك، فإن دَلَّ على قُرْبه بنفسه حُمِلَ عليه كما في هذا الحديث، وإنْ دَلَّ على قُرب ملائكته ورسله حُمِلَ عليه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ}.
وليس من الخلق أحد إلا ويعلم أن عباد الله منهم المقرب إلى الله تعالى، ومنهم المبعد الملعون المطرود، وكلهم يسمون الطاعات: قربات، يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، وكلهم يرفعون أيديهم إلى الله، وكونه تعالى فوقهم يستلزم أنه يقرب إليه بالعلو والصعود، كما رفع عيسى ابن مريم - عليه السلام - إليه، والملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم إذا صعدوا إليه سألهم: كيف تركتم عبادي؟
والأدلة على هذا الأصل العظيم لا حصر لها، واتفق السلف الصالح، ومن تبع كتاب الله، وسنة نبيه، وآمن بهما، على القول بذلك، والإيمان به.
قال الخلال في السُّنَّة: أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المصرمي، حدثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء: "ينزل الله إلى السماء الدنيا" يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد، ثم قال: "هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء".
وقال شيخ الإسلام: "أهل السُّنَّة يثبتون أن الله على عرشه، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماء صار يزداد قربًا إلى ربه بعروجه، وصعوده. وعروجه إلى الله - تعالى - لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود، وإن كان بدنه متواضعًا، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنَّة".
وأما قوله: (يَضَعَ كَنَفَهُ عليه) والمعنى: أنه - تعالى - يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم، فيخزى، لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة.
وعبر صلى الله عليه وسلم بالكنف عن ترك إظهار جرمه للملائكة وغيرهم بإدامة الستر الذي منّ به على العبد في الدنيا، وجعله سببًا لمغفرته له في الآخرة، ودليلًا للمذنب على عفوه، وتنبيهًا له على نعمة الخلاص من فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة التي هي أشد من عقوبة الدنيا، لقوله تعالى: }وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَ{ [طه: 127] فيشكر ربه ويذكر.
وهذا الحديث كقوله تعالى: (إن رحمتي سبقت غضبي)؛لأن تأخير غضبه عنه عند مجاهرة ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه لا تخفى عنه خافية مما يعلم بصحيح النظر أنه لم يؤخر عقوبته عنه لعجز عن إنفاذها عليه إلا لرحمته التى حكم لها بالسبق لغضبه؛ إذ ليس من صفة رحمته التى وسعت كل شىء أن تسبق فى الدنيا بالستر من الفضيحة ويسبقها الغضب فى ذلك الذنب فى الآخرة، فإذا لم يكن بد من تغليب الرحمة على الغضب فليبشر المذنبون المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصي من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده.
قوله: "فيقرره" أي: يجعله مقرًا بذلك أو مستقرًا عليه ثابتًا.
وفى قوله: (سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، فأنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ) نص على صحة قول أهل السنة فى ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين.
وفيه إثبات كلام الله - تعالى - مع العباد يوم القيامة بخلاف ما حرمهم إياه في الدنيا بحجابه الأبصار عن رؤيته فيها، فيرفع في الآخرة ذلك الحجاب عن أبصارهم، ويكلمهم على حال المشاهدة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ".
وروى عن ابن مسعود أنه قال: ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: }وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً{ [لقمان: 20]، قال: أما الظاهرة بالإسلام وما حسن من خلقك وأفضل عليك من الرزق، وأما الباطنة فما ستر عليك من الذنوب والعيوب.
وفي ستر المؤمن على نفسه منافع. منها: أنه إذا اختفى بالذنب عن العباد لم يستخفوا به ولا استذلوه؛ لأن المعاصى تذل أهلها. وفي المجاهرة بالمعاصي استخفاف بحق الله وحق رسوله وضرب من العناد لهما فلذلك قال عليه السلام: "كل أمتى معافى إلا المجاهرون".