إن دعاة التوحيد لا تقف دعوتهم عند الحدود النظرية والكلامية، بل إن لُب دعوتهم تعبيد الناس لله رب العالمين، بإنكار ما هم عليهم من المعاصي والذنوب، وهو ما كان من نبي الله لوط - عليه السلام - الذي أرسله الله - عز وجل - إلى قومه يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين.
قال تعالى:
}وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ{ [الأعراف: 80 - 81].
وجاء ذلك أيضًا في موضعين آخرين:
}أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ{ [الشعراء: 165 - 166].
}وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ{ [العنكبوت: 28 - 29].
وقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} بطريق الإنكارِ التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في القبح المتماديةِ في السوء، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا}، أي: ما عمِلها قبلكم {مِنْ أَحَدٍ} لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ لغاية قُبْحِها وسوءِ سبيلها.
وفي قولِه تعالى: {مِنَ الْعَالَمِينَ} مسوقة لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ فإن مباشرةَ القبيح واختراعَه أقبحُ ولقد أنكر الله - تعالى - عليهم أولاً إتيانَ الفاحشةِ، ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ لكونهم سابقين لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من العالمين.
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}: لبيان تلك الفاحشةِ وتأكيدٌ للإنكار السابقِ وتشديدٍ للتوبيخ ومزيدُ توبيخ وتقريع كأن ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيدًا قويًا، وفي إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمرادان ونحوِهما مبالغةً في التوبيخ.
وقوله تعالى {شَهْوَةً} تنبيهٌ عَلَى أنَّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ، وهو أيضًا نوع من الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} أي متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محلُّ الاشتهاء.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: متجاوزون لما حده الله متجرئون على محارمه، وهو إخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل.
إن قصة قوم لوط - عليه السلام - تكشف عن لون خاص من انحراف الفطرة شديدة الارتباط بقضية الألوهية والتوحيد، فإن الاعتقاد في اللّه الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه.
وقد شاءت سنة اللّه أن يخلق البشر ذكرًا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى، ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضويًا ونفسيًا لهذا الالتقاء.
وجعل - سبحانه وتعالى - اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة اللّه في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعًا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية من حمل ووضع ورضاعة ومن نفقة وتربية وكفالة، ثم لتكون كذلك ضمانًا لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين.
هذه هي سنة اللّه التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في اللّه وحكمته ولطف تدبيره وتقديره، ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلًا بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج اللّه للحياة.