روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ - كان يُكثِرُ أن يقولَ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ".
فقلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ فَهل تخافُ علَينا؟
قالَ: "نَعَمْ؛ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَينِ مِن أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ" .
(أخرجه الترمذي: 2140، واللفظ له، وأحمد: 13696، باختلافٍ يسير، وابن ماجه: 3834 بنحوه)
وقد أثبت القرآن الكريم عملية التحول هذه في القلوب، وكيف يمكن أن تتحول قلوب من أعلى درجات اليقين والإيمان إلى المكر السيئ، فهذا "بَلْعَام بن بَاعُورَاء" الذي عاش في زمن سيدنا موسى - عليه السلام - حيث تعلم التوراة وأتم حفظها وفهمها، حتى أصبح من أعلم بني إسرائيل، وبلغ درجة من العلم لم يبلغها أحدٌ إلا الأنبياء والرسل، حتى قال الله - تعالي - في حقه: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا{ [الأعراف: 175].
ومن تلك الآيات التي أعطاها الله له أنه كان مجاب الدعوة –فيما قيل - فأي دعوة كان يتوجه بها بلعام إلى أبواب السماء كان يحققها له الله - سبحانه وتعالى -، فأرسله موسى - عليه السلام - إلى أهل مَدْيَنَ لكي يدعوهم إلى التوحيد والإيمان، لكن أهل مدين أغروه بالمال والعطايا وعرضوا عليه كل ما يتمناه لكي يترك دعوة التوحيد، فاختار الدنيا الفانية وفضَّلها عن الآخرة الباقية، وعماه حبه للمال والجاه عن حب الله.
واستمر أهل مدين في تحريضه حتى أطاعهم وصعد إلى الجبل ودعا على موسى عليه السلام - ومن معه، واحتال ومكر حتى تنتشر المعصية والفاحشة في بني إسرائيل، فكان عاقبة مكره وردته أن نزع الله منه العلم، وجعل مثله إلى يوم الدين كمثل الكلب بعد أن كان مثالًا لمن آتاه الله - تعالى - العلم والآيات، قال تعالى:
}فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{ [الأعراف: 175 - 176].
أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات الله، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفًا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب الله وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس.
فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزًّا.
ثم نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد، إذا نحن بهذا المخلوق لاصقًا بالأرض، ملوثًا بالطين، ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد، وكان له من الإيمان جناح يحلق به إلى عليين وكان من فطرته الأولى في أحسن تقويم، فإذا هو ينحط منها إلى أسفل سافلين.
قال ابن القيم: وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في حال لهثه: سر بديع. وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة. فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.