عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القيامةِ، ولا يَنْظُرُ إليهِم: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَد أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، ورَجٌلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ".
أخرجه البخاري (7446) واللفظ له، ومسلم (108)
قوله: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ" أي: ثلاثة من أجناس الناس، يعم الذكور والإناث، والأحرار والعبيد. وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم يُذْهَبُ بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب، مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصصًا لحديث عدي ، وهو قوله: "مَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ إلاَّ سيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه تَرْجُمَان" (البخاري: 6539).
وقوله: "ولا ينظر إليهم" نظر الله - تعالى - إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالاً مقتهم الله عليها، فأعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه فهو هالك، الهلاك الأكبر.
والمقصود بالنظر المنفي هنا، نظر خاص يتضمن الإحسان والرحمة، ويفهم منه نظر العبد إلى الله - تعالى - لا يحجب بصره شيء أبدًا، في أي وقت كان.
ثم ذكر أفعالهم التي استحقوا عليها هذا الوعيد الشديد، وهي ثلاثة أنواع:
أحدها: الحلف على السلعة التي يريد بيعها، أنه أعطى بها أكثر مما يريد المشتري أن يأخذها به، وهو كاذب في حلفه، وذلك لأنه اشترى بيمينه ثمنًا قليلاً بخسًا، مما يدل على رغبته في الدنيا وزهده في الآخرة، واليمين دين يتعبد الله به، فمن خاف الله في يمينه، فلم يكذب فهو من المتقين في ذلك.
ومن بذل يمينه بعرض من الدنيا، فهو فاجر يستحق العقوبة، مستخف بحرمات الله.
والنوع الثاني: - وهو أخص من الذي قبله - وهو الحلف على يمين كاذبة بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا يكون عند من يحكم بين الحالف والمحلوف له، وهو الحاكم؛ لأن المحلوف له يلزم بأن هذا المال للحالف بمقتضى يمينه، وهذا هو معنى الاقتطاع.
وخص المسلم لأن ماله أشد حرمة، وحقه على أخيه المسلم أعظم، وإلا فمال الكافر غير المحارب لا يجوز أخذه إلا بحق.
وخص وقت بعد العصر لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى - وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين.
وهذه اليمين هي الغموس سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم فلا يخرج منه إلا أن يشاء الله - تعالى - فإنه يخرج الحي من الميت.
النوع الثالث: منع فضل الماء الذي زاد عن حاجته، ويحتاج إليه سالك الطريق؛ وذلك لأن الماء يتجدد بدله كلما أخذ منه، ولا يضر بذله، فمانعه لا يكون إلا لئيمًا خبيث النفس، يقصد الأذية، وليس لديه رحمة للخلق، ولا رغبة في الخير.
وفهم من قوله: "فضل ماء" أن ما يحتاجه لشربه هو ومن يلزمه إعاشته لا يلزمه بذله.
ولكون الماء يتجدد بما أخذ منه، ولا صنع للإنسان فيه، كالطعام مثلاً واللباس الذي يحتاج معالجة وعملاً، لأجل ذلك يقول الله - تعالى - يوم القيامة: "اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"، ومن منع فضل الله فهو الخاسر الخسران الأبدي.
وقوله: "يقول الله" إلى آخره، لا يعارض أول الحديث أن هؤلاء لا يكلمهم الله، لأنه لا يلزم أن يكون هذا القول مواجهًا به صاحب هذا العمل فقد يكون للملائكة الذين يتولون عذابه، أو غير ذلك.