قال تعالى:
}وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [الأعراف: 85].
يقول تعالى:
{وَإِلَى مَدْيَنَ} أي: أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين، وهم أصحاب الأيكة، {أَخَاهُمْ} في النسب {شُعَيْبًا} وكان يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته، ولحسن مراجعتِه قومَه.
{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي: يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه دعوة الرسل كلهم، وأصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء، وقاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل، أن اعبدوا الله وحده لا شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة غير الإله الذي خلقكم، وبيده نفعكم وضركم.
}قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ{ أي: معجزةٌ، ولم يُذكرْ معجزتُه - عليه السلام - في القرآن العظيم، كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبيِّ - صلَّى الله عليهِ وسلم -، وقيل البينةُ مجيئُه - عليهِ السَّلامُ - كَما في قوله - تعالى - }يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى{ أي: حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة.
}فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ{: أمرهم بإيفاء المكيال والميزان، على عادة الأنبياء - عليهم السلام - إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالًا أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدءوا يمنعهم عن ذلك النوع، وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة.
ونقص المكيال والميزان من الموبقات العظيمة، كما قال تعالى: }وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ*الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ*أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ{ [المطففين: 1 - 4]، ويدل على أن عبادةَ الله - تعالى - موجبة لاجتناب المناهي التي معظمُها بعد الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه.
}وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ{ فقد أمرهم ألا يبخسوا الناس أشياءهم التي يشترونها، فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ وقيل كانوا مكّاسين لا يدَعون شيئًا إلا مكَسوه.
فهو - عليه السلام - لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه، ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل.
}وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ{: بعبادة غير الله، والإشراك به، وبخس الناس في الكيل والوزن والإكثار من عمل المعاصي، فإن ترك المعاصي امتثالًا لأمر الله وتقربًا إليه خير، وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، وعذاب النار، فالآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين.
}بَعْدَ إِصْلَاحِهَا{: بعد أن قد أصلح الله الأرض بابتعاث النبي - عليه السلام - فيكم، ينهاكم عما لا يحل لكم، وما يكرهه الله لكم.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}: إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيريةِ إما الزيادةُ مطلقًا أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه من التكسب والربح؛ لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في معاملتهم ومُتاجَرَتِهم.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: أي مصدّقين لي في قولي هذا.
وحاصل هذه التكاليف التي ذكرها نبي الله شعيب - عليه السلام - يرجع إلى أصلين: الأول: التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والثاني: الشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الفساد.