موقف بني إسرائيل من دعوة موسى عليه السلام
أولاً: ضعف الصبر وظهور ذلك في كلامهم:
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، وأمام هذا التهديد نجد موسى عليه السلام يوصى بالصبر ويبشرهم بالنصر بقوله {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف: 128]، أي: يا قوم استعينوا بالله في كل أموركم. واصبروا على البلاء، فهذه الأرض ليست ملكا لفرعون وملئه، وإنما هي ملك لله رب للعالمين، وهو سبحانه يورثها لمن يشاء من عباده، وقد جرت سنته سبحانه أن يجعل العاقبة الطيبة لمن يخشاه ويفعل ما أمره به ويترك ما نهاه عنه ولا يخشى أحدا سواه.
لكن بني إسرائيل ردوا على موسى رداً يدل على سفاهتهم {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف: 129] أي: لقد أصابنا الأذى من فرعون قبل أن تأتينا يا موسى بالرسالة، فقد قتل منا ذلك الجبار الكثير من أبنائنا، وأنزل بنا ألوانا من الظلم والاضطهاد، وأصابنا الأذى بعد أن جئتنا بالرسالة كما ترى من سوء أحوالنا، وتسخيرنا للأشغال الحقيرة المهينة. وهذا بداية تذمر من بعضهم واستعجالهم النصر، والله يريد منهم الصبر.
ومع هذا الرد السفيه يرد عليهم موسى عليه السلام بما يليق به فيقول راجياً ربه متأدباً بأدب الأنبياء حاثاً لهم على العمل ومانعاً لهم من الاتكال وترك العمل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ فرعون الذي فعل بكم ما فعل من أنواع الظلم، وتوعدكم بما توعد من صنوف الاضطهاد، ويجعلكم خلفاء فيها من بعد هلاكه هو وشيعته. فأنتم تستعجلون الاختبار من الله لأنه سيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، ليجازيكم على حسب أعمالكم، فإن استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباة لكم، وإنما هو استخلاف للاختبار والامتحان، فإن أحسنتم زادكم الله من فضله، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم.
ثانيا: نصر الله تعالى بني إسرائيل على فرعون:
قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}[الأعراف: 137]، وصدق الله وعده وهزم الأعداء والظالمين بقدرته، بل وأعطي القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر من فرعون وملئه من طريق الاستخلاف- قبل أن يزيغوا ويضلوا- مشارق أرض الشام ومغاربها التي باركنا فيها بالخصوبة وسعة الأرزاق، وبكونها مساكن الأنبياء والصالحين، ليكون ذلك امتحانا لهم، واختبارا لنفوسهم. ونفذت كلمة الله الحسنى ومضت عليهم تامة كاملة، إذ رزقهم الله سبحانه النصر على أعدائهم. والتمكين في الأرض بسبب صبرهم على ظلم فرعون وملئه.
ثالثا: ظهور آثار تمرد بني إسرائيل ومعاقبة الله لهم على ذلك:
حكى الله تعالى عن بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون وملئه وما قاموا به من أعمال مشينة تجاه دعوة موسى عليه السلام للتوحيد، ومن ذلك:
1- طلبهم من موسى أن يصنع لهم إلها، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف: 138]
2- عبادتهم العجل، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]
3- تمردهم وعصيانهم لنبي الله هارون عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
أي: يا ابن أمي، ـ بهذا النداء الرقيق، وبتلك الوشيجة الرحيمة ـ لا تعجل بلومي وتعنيفى، فإني ما آليت جهدا في الإنكار عليهم، وما قصرت في نصيحتهم ولكنهم لم يستمعوا إلى، بل قهروني واستضعفوني، وأوشكوا أن يقتلوني عندما بذلت أقصى طاقتي لأخفف هياجهم واندفاعهم نحو العجل.
4- قالوا لموسى عليه السلام: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}. فكانت عاقبتهم {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة: 55]
5- قالوا لموسى عليه السلام: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ}، فكانت عاقبتهم ذهاب نعمتهم واستبدالهم بما هو أسوأ، قال تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
6- وعندما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة: 22-25]
فكانت عاقبتهم: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}.
وهكذا استمر بنوا إسرائيل في العناد لأمر الله ورسله حتى وقتنا الحاضر.