عاقبة فرعون وقومه
أولا: ابتلاءات ليعتبروا قبل أخذهم بالعذاب:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، هذا شروع في تفصيل بادئ الهلاك الموعود به، وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، فيبين الله تعالى أنه اختبر آل فرعون وامتحنهم بالجدب والقحط، وضيق المعيشة، وانتقاص الثمرات لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويتذكرون ضعفهم أمام قوة خالقهم، ويرجعون عما هم فيه من الكفر والعصيان، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتصفى النفوس، وترغب في الضراعة إلى الله، وتدعو إلى اليقظة والتفكير ومحاسبة النفس على الخطايا اتقاء للبلايا.
والمراد بآل فرعون قومه وأتباعه، فهم مؤاخذون بظلمه وطغيانه، لأنهم موافقون له، بل هم وزراؤه وجلساؤه وبطانته، وهم قوته المالية والعسكرية، وقد خلقهم الله أحرارا وأكرمهم بالعقل والفطرة التي تكره الظلم والطغيان بالغريزة، فكان حقا عليهم ألا يقبلوا استعباد فرعون لهم وجعلهم آلة لطغيانه، لاسيما بعد بعثة موسى عليه السلام، وسماعهم الحق، ورؤيتهم الآيات المعجزة.
وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}
أي: نتيجة لهذا العناد والجحود والتعالي أرسل الله على هؤلاء الجاحدين عقوبة لهم؛ الطوفان: وهو ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر وسيل، والْجَرادَ: فأكل زروعهم وثمارهم وأعشابهم حتى ترك أرضهم سوداء قاحلة. والْقُمَّلَ: وهو السوس الذي أكل حبوبهم وما اشتملت عليه بيوتهم. والضَّفادِعَ: فصعدت من الأنهار والخلجان والمنابع فغطت الأرض وضايقتهم في معاشهم ومنامهم. والدَّمَ: فصارت مياه الأنهار مختلطة به، حتى مات السمك فيها.
وابتلاهم الله بهذه الشرور لتكون دلائل مبينات واضحات لا يشك عاقل في كونها آيات إلهية لا مدخل فيها للسحر كما يزعمون، ولعلهم يتوبون ويرجعون لرشدهم. ولكن مع كل ذلك استكبروا عن الإيمان بموسى عليه السلام وعما جاء به من معجزات، وأصبحت طبيعتهم الإجرام ودينهم الكفر والفسوق.
مع أنهم حين وقع على فرعون ومثله العذاب المذكور في الآية السابقة، أخذوا يقولون لموسى بتذلل واستعطاف عقب كل عقوبة من تلك العقوبات: يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحق ما عهد عندك من أمر إرسالك إلينا لإنقاذنا من الهلاك أن يكشف عنا هذا العذاب، ونحن نقسم لك بأنك إن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل. فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى الوقت الذي أُجل لهم وهو وقت إغراقهم في اليم، إذا هم ينقضون عهدهم الذي التزموه، ويحنثون في قسمهم في كل مرة.
ثانيا: نزول العقاب بهم وإغراق فرعون ومن معه:
قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}، هنا جاءت نهاية فرعون وقومه الأليمة، بأن أغرقهم الله في البحر وذلك بسبب تكذيبهم لآياته الواضحة، وحججه الساطعة، وكانوا عنها غافلين بحيث لا يتدبرونها، ولا يتفكرون فيما تحمله من عظات وعبر. وكان ذلك الغرق آية أخرى للعالمين في زمانهم وإلى يوم القيامة، فصَّله الله في آيات أخرى من القرآن.
ويصور القرآن نجاة موسى عليه السلام وهلاك فرعون، بقوله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ* وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:57 - 66]. ويتضح من هذا السياق أيضاً ثقة موسى عليه السلام من نصر ربه له وتأييده، وخذلان أعدائه، وذلك حين خشي قومه إدراك فرعون لهم.
وفي موضع آخر يأتي تصوير حال فرعون عند الغرق بقوله سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:90 - 92]. هكذا كان هلاك فرعون وجنوده، فإن موسى وقومه لما اكتملوا خارجين من البحر، واكتمل فرعون وقومه داخلين فيه، وهمّ أَوّلُهم بالخروج منه، أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فآمن حيث لا ينفعه الإيمان. ذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين. ورماه البحر على ناحية ليتحقق الناس موته ويكون لهم آية، وهكذا نهاية الظالمين، والحمد لله رب العالمين.