من أبرز معالم التوحيد في دعوة إبراهيم عليه السلام خوفه على نفسه وعلى ذريته من عبادة الأصنام، على الرغم من اصطفاء الله عز وجل له، وعلى الرغم من أن دعوته ورسالته ما جاءت إلا لنبذ الأوثان وعبادة الله الواحد الديان.
قال تعالى: }وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ{ [إبراهيم: 35].
وهنا يصور القرآن لنا إبراهيم - عليه السلام - إلى جوار بيت اللّه الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش، فإذا بها تكفر فيه باللّه، مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة اللّه! فيصوره القرآن في هذا المشهد الضارع الخاشع الذاكر الشاكر، ليرد الجاحدين الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون.
فهو ـ عليه السلام ـ لمَّا دعا لهذا البيت بالأمن دعا له ولبنيه بالأمن أيضًا فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} أي: اجعلني وإياهم جانبًا بعيدًا عن عبادتها والإلمام بها، ثم ذكر الموجب لخوفه عليه وعلى بنيه بكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها.
وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل بمعنى البعد، والمراد هنا على ـ ما قال الزجاج ـ طلب الثبات والدوام على ذلك، أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام، وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى.
ومع عصمتهم إلا أن الوَجَلَ والخوف كان يملأ قلوبهم، وكان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم، حين يقول: ربّ }اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ{[جامع البيان في تأويل القرآن(17/17)].
وهو ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، فعن شَهْر بن حَوشب قال:
قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: "يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ". قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: "يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ ، فمَن شاءَ أقامَ ، ومن شاءَ أزاغَ". فتلا معاذٌ }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا{ [صححه الألباني في صحيح الترمذي (3522)].
ولكن ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها [روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني(7/221)].
كما تتجلى في هذه الدعوة التسليم المطلق من إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى ربه، والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه، فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه، يستعين به بهذا الدعاء ويستهديه، ثم ليبرز أن هذه نعمة من نعم اللّه، وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان باللّه وتوحيده، فيخرج من الحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء.
إنها لنعمة يدعو إبراهيم - عليه السلام - ربه ليحفظها عليه، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام.
يدعو إبراهيم - عليه السلام - دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير: }رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ{.
فحَرِيّ بكل عبد أسلم وجهه لله، واتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - حنيفًا أن يكون على وجل وخوف دائم على عقيدة التوحيد التي استودعها الله عز وجل قلبه، دائم التفقد لها، حريص أشد الحرص على دعوة الله أن يثبته ويتوفاه على تلك العقيدة، كما كان حال إبراهيم عليه السلام.