الأيام المعدودات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه، باتت قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، ولكنها تودعنا بليلة، وأي ليلية! ليلة عظيم شأنها، تترقبها الأمة عامًا بعد عام، في لهفة وشوق، إنها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". (البخاري: 1901، ومسلم: 760)
ومعنى ليلة القدر الليلة التي يقدر الله تعالى لملائكته جميع ما ينبغي أن يجري على أيديهم من تدبير بني آدم ومحياهم ومماتهم إلى ليلة القدر من السنة القابلة.
وكان يدخل في هذه الجملة أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يقدر فيها ما هو منزله من القرآن إلى مثلها من العام القابل، فقال الله تعالى في وصف هذه الليلة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] أي مبارك فيها لأولياء الله عز وجل، فإنها جعلت خيرًا من ألف شهر أجرها، فقدروها حق قدرها، واقطعوها بالصلاة وقراءة القرآن والذكر دون اللغو واللهو.
ثم قال {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] أي كل أمر مبني على السداد والحكمة، ومعنى يفرق: يفصل؛ ليكون ما يلقى إلى الملائكة في السنة مقدرًا بمقدار يحصره عليهم.
وأما عن وقتها فقد وردت أحاديث متعددة منها ما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: "مَنِ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمَطَرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ، صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.(البخاري: 2027).
وعنْ عُقْبَةَ بْنِ حُرَيْثٍ، أنه سَمِعَ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَإِنْ ضَعُفُ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَنِ السَّبْعِ الْبَوَاقِي".(مسلم:1165).
وعن أرجى عمل فيها، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها قال: قولي: "اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".(صحيح الترغيب:3391)
فالعفو من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده الماحي لأثارهم عنهم، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته.
وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها، وفي ليالي العشر، لأن الصالحين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا ولا مقالًا فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر.
كان مطرف يقول في دعائه: اللهم ارض عنا، فإن لم ترض عنا فاعف عنا.
فمن عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا وكان غاية أمله أن يطمع في العفو.
يا رب عبدك قد أتا ... ك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه ... من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنو ... ب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفو ... ك من عقابك ملحفا
رب اعف وعافه ... فلأنت أولى من عفا