مرت على أمتنا الإسلامية ليالي شهر رمضان المبارك كما يبرق البرق، وهكذا هي الآجال تنقضي، والأعمار تفنى، والكَيِّسُ مَنْ تَزَوَّدَ مِنْ هذه الأيام المباركات لِمَا بعد الممات.
ترحل شهر الصبر والهفاه وانصرما * واختص بالفوز في الجنات من خدما
وعجبًا ترى من أبناء الأمة؛ إذا انسلخ الشهر وجاء العيد وكأنهم خلق جديد، وكأنهم ما شهدوا الصلوات، ولا قدموا الزكوات، ولا صفُّوا أقدامهم في الظلمات، ولا ناجوا ربهم لتفريج الكربات!
وهل كان هذا حال سلفهم الصالح؟!
لقد كان سلف هذه الأمة يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده عليهم، وهؤلاء هم الذين وصفهم الحق تبارك وتعالى بقوله:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]. أي: يعطون من أنفسهم مما أمروا به، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك، {وَ} مع هذا {قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: خائفة {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي: خائفة عند عرض أعمالها عليه، والوقوف بين يديه، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لعلمهم بربهم، وما يستحقه من أصناف العبادات.
وعن علي رضي الله عنه قال: "كونوا لقَبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]". وقال عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهَمّ أيُقبل منهم أم لا"؟
وعن محمد بن يزيد قال: رأيت وُهيب بن الورد صلى ذات يوم العيد، فلما انصرف الناس جعلوا يمرون به، فنظر إليهم ثم زفر ثم قال: لئن كان هؤلاء القوم أصبحوا مستيقنين أنه قد تُقُبِّل منهم شهرهم هذا لكان ينبغي لهم أن يكونوا مشاغيل بأداء الشكر عما هم فيه، وإن كانت الأخرى لقد كان ينبغي لهم أن يصبحوا أشغل وأشغل" [صفة الصفوة:1/421].
ليت شعري من فيه يقبل منا * فيهنا يا خيبة المردود
من تولى عنه بغير قَبول * أرغم اللهُ أنفه بخزي شديد
وكان عملهم - رضي الله عنهم - ديمة كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عبادته لما سئلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شيئًا من الأيام؟ فقالت: "لا، كان عملُه دِيمةً" [البخاري: 1987ومسلم: 783].
"ومعناه أن اختلاف حاله في الإكثار من الصوم ثم من الفطر كان مستدامًا مستمرًا، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يوظف على نفسه العبادة، فربما شغله عن بعضها شاغل فيقضيها على التوالي فيشتبه الحال على مَنْ يرى ذلك" [ فتح الباري، ابن حجر،4/236].
قيل لبِشر الحَافِي: إنَّ قومًا يتعبدون في رمضان، ويجتهدون في الأعمال، فإذا انسلخ تركوا! قال: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان" [مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار: 2/283].
وكم كان حرصهم – رضي الله عنهم – على اجتناب المعاصي والعزم بعد مواسم الطاعات على التوبة وهجران السيئات، قال كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ أنَّه إن أفطر رمضانَ أن لا يعصِي اللَّهَ دخلَ الجنةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حساب، ومَن صامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر عصَى ربَّه فصيامُه عليه مردودٌ" [لطائف المعارف:136-137].
فاستعملوا نِعَمَ الله بلزوم طاعته، واحذروا استعمالها بالعصيان، ولا تقولوا ذهب رمضان فهيا وُثُوبًا لعصيان، فرب الزمانين واحد، وقد حرم العصيان في أي شهر كان، ولا تعتقدوا أنَّ الأعيادَ جُعِلَت للِّعْبِ واللَّهْوِ بل هي لإقامة ذكر الله والإعراض عن اللغو.
واعرفوا قَدْرَ نِعْمَةِ الله عليكم في هذا العيد الأنور؛ عيد الفطر المبارك، عيدنا أهل الإسلام ليس عيدًا من أعياد الكفار، تَوَّجَ اللهُ به شهر الصيام، وافتتح به شهور حج بيته الحرام، وأجزل فيه للصائمين جوائز الإكرام.