التحذير من الغلو
الغلو أصل كل شر وبلاء في الدين، وهو أصل الشرك الانحراف الذي صار طريقا لكل هالك وكل ضال، والغلو كان سبباً في وقوع الشرك في الأرض بعد أن لم يكن، ثمَّ صار بعدُ أساسَ كل شرك يقع في كلِّ زمان ومكان، فهو سبب كفر النصارى، وشركهم الذي قال الله عنهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء: 171].
ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، ومن كل وسيلة توصل إليه؛ خوفاً على أمته وحماية لجناب التوحيد(1) فنهاهم عن:
1-الغلو في الدين: فقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون"(3).
2-الغلو في حقّه صلى الله عليه وسلم: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه -رضي الله عنهم- عن الغلو في تعظيمه ومدحه والثناء عليه، خوفاً عليهم من مجاوزة الحد إلى النهي عنه، وحماية لجناب التوحيد أن يمسها دنسٌ، واحتياطاً في الحفاظ عليه حتى من الأمور التي قد لا تكون في الواقع شركاً أو بدعة(4)؛ لأنَّ ذلك قد يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه(5) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله"(6).
3. الغلو في الصالحين واتخاذ قبورهم مساجد:
إذا كان الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوعاً، فالغلو في حقِّ غيره من الصالحين من باب أولى، والمراد بالغلو في الصالحين: رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلا لله، من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المداد منهم(7). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فكل من غلا في حي أو في رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول ياسيدي فلان اغفر لي أو انصرني أو أغثني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى؛ فكل هذا شرك وضلال يُستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإنَّ الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلهاً آخر..."(8).
ومن الأحاديث الدالة على عناية النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته لجناب التوحيد نهيه وتحذيره من الغلو في الصالحين، وعدم اتخاذ قبورهم مساجد، قوله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ: "إلا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك"(9).
4-الغلو في أماكن مخصوصة: إنَّ الغلو في الأماكن يفتح ذريعة للإشراك بالله تعالى، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شدِّ الرحال لغير المساجد الثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُشدُّ الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى"(10). قال شيخ الإسلام ابن تيميّة –رحمه الله تعالى-: "هذا النهي يعمُّ السفر إلى المساجد والمشاهد، وكلُّ مكانٍ يُقصدُ السفر إلى عينه للتقرب..."(11).
وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، عناية منه صلى الله عليه وسلم بجناب التوحيد وحراسة له، فعن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرتُ أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد؟ قالوا لا. قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا في ما لا يملك ابن آدم"(12). فالرسول صلى الله عليه وسلم تحرى في السؤال عن هذه الأشياء حتى لا تقع موافقة لأهل الشرك في عبادتهم حتى ولو كانت المشابهة ظاهرية وليست قلبية أو قصدية، فلا يتشبه المسلم بهم في العبادة، لا في الوقت ولا في المكان، ولا في الهيئة والكيفية، ومن أجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله، ويفهم من الحديث "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله" أنه لو ذبح في مثل هذا المكان لكان ذلك معصية لله، ومن هذا الباب نهى صلى الله عليه وسلم عن السجود في أوقات شروق الشمس وغروبها، لأنّه في هذا الوقت يسجدُ لها الكفار، فلا يسجد المسلم في هذه الأوقات، وإن كان سجوده غير سجودهم، ونيته غير نيتهم، وهذا كلّه حماية لجناب التوحيد وسدٌّ لكل الطرق والوسائل المفضية إلى نقصه ونقضه(13).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. حماية الرسول حُمى التوحيد، محمد زربان الغامدي، ص(288).
2. رواه النسائي، (5-267)، كتاب المناسك، باب: قدر حصي الرمي، برقم (3029)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.
3. رواه مسلم، (4-2055)، كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، برقم: (2670)، من حديث أبي مسعود –رضي الله عنه-.
حماية الرسول حُمى التوحيد، محمد زربان الغامدي، ص(292).
4. الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، صالح الفوزان، ص(50-51)، وسبيل الهدى والرشاد في بيان حقيقة توحيد ربِّ العباد، محمد الخميس، ص(33).
5. رواه البخاري، (3-1271)، كتاب الأنبياء، باب: يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم، برقم: (3261) من حديث عمر –رضي الله عنه-.
6. انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، للشيخ صالح الفوزان، ص: (50-51)، وسبيل الهدى والرشاد في بيان حقيقة توحيد رب العباد، محمد الخميس، ص(33).
7. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (3-396)، باختصار وتصرف يسير.
8. رواه مسلم، (1-337)، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (532).
9. متفق عليه: رواه البخاري، (1-398)، كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1132)، ومسلم واللفظ له (2-1014)، كتاب الحج، باب: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم: (1397)، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
10. اقتضاء الصراط المستقيم، (2-182).
11. رواه أبو داوود، (3-238)، كتاب: الإيمان والنذور، باب: من نذر أن يصلي في بيت المقدس، برقم (3313).
12. انظر: قضايا منهجية دعوية، عبدالرحمن المحمود، ص (104).