على امتداد سنتين ونصف السنة من الزمان، ظل المجوس والروافض يحشدون لحرب طائفية كريهة، وجدَّ ساستهم ومراجعهم يستفزون كل قواهم، ويجلبون بخيلهم ورَجِلهم باسم الدفاع عن عقيدتهم المحرفة وأوثانهم وأضرحتهم التي يعبدونها من دون الله.
أعلنوها حربا على الوهابية والسنة كما يقولون، واستباحوا لذلك نحر الأطفال، وهتك أعراض النساء، وذبح الشيوخ والرجال، وكل ذلك يحدث بدوافع دينية مذهبية طائفية بغيضة، وفي المقابل كنا نحن أهل السنة نعمِّي الراية، ونغالط الحقائق، ونهرب من الاعتراف بطبيعة الحرب وحقيقتها وأبعادها.
وفي حالة من الخذلان أليمة، كان قطعان الروافض - الذين لا يمثلون عشرة في المئة من العالم السني - يعيثون في ديار السنة، ويهدمون أعرق مساجدها، ويسفكون دماء الأطفال، ويهتكون أعراض النساء، وعلى مسامع أهل السنة وبين شعوبها الممتدة، ودولها الكبيرة، كان الروافض يجاهرون بسب الصحابة الكرام، يتباهون بلعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكنا مع ذلك نتلكأ في الاعتراف بحقيقة المعركة.
وأمام تصريحهم وتمويهنا، ومع تعبئتهم وحشدهم وقعودنا وخذلاننا، شهد التاريخ أبشع حرب تقوم فيها قلة ذليلة شاذة بالاعتداء على الكثرة الممتدة العزيزة، ذات الأرض والتاريخ، والعدد والعدة، فشهد العالم من صور القتل والتعذيب والذبح على الهوية ما لم يشهده في فظائع السوفيت في أفغانستان، ولا اليهود في فلسطين، ولا الصرب في البوسنة.. كانت صورا منقطعة عن الأخلاق والدين والإنسانية، كانت حقدا يتنفس في شِفار السكاكين وأفواه البنادق.
إزاء ذلك، كان في الأمة شباب مخلص نقي، يقرؤون قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}، وقوله: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، وقوله: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}، كانت أحاديث النصرة نتقر أسماعهم وتعصر قلوبهم: "ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه، وما من أحدٍ ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصره اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه "(صحيح الجامع 5690)
كانوا يسمعون ذلك في أسماعهم، وأمام أعينهم استغاثات الحرائر النائحات على أعراضهن وأطفالهن، أمام أعينهم جثث الأطفال الغارقة في دمائها، فعرفوا الحق من دينهم، فطاروا للجهاد، وكانوا على قِلَّتهم وعزلتهم، أسود وغى وليوث حرب، صبرا في الحرب، صدقا عند اللقاء، أذاقوا الروافض ما لم يكونوا يحتسبون، فتنابحت كلابهم من جديد، وأنَّت عمائمهم المسودة من ألم الضرب وحر سيف القصاص.
ولقد وحاول الغرب الخؤون المراوغ أن يعزل المجاهدين عن أمتهم، وخاصة بعد أن أصبحت ربيبتهم النجسة إسرائيل تسمع تكبيرات الأبطال على حدودها الشمالية، وتشهد عيانا كيف هو ضربهم وكيف تكون حربهم. ولما رأوا أن قوى الجهاد قد استعصت على المؤامرة، وتمنعت على الترويض والتسييس، أرادوا مواجهتها بالقوة لتأتي إلى مؤتمرات التفاوض مثلومة الحد مكسورة الجناح، ترضى بالقليل وتعطي الدنية في دينها، فدبروا لها وقعت القصير الأليمة، وشجعوا روافض إيران والعراق ونصيرية سوريا، وأطلقوا معهم كلب الحراسة الرابض على بوابة إسرائيل الشمالية "حزب الشيطان"، وفتحوا على المدينة الصغيرة حمم النيران شهرا من الزمان كاملا، والعصبة الصامدة فيها لا مدد ولا سلاح يُذكر، حتى استشهدت القصير، وسقطت كما أرادت قوى الصليب، وكما اشتهت أحلاف المجوس، وظنوا أنهم أسقطوا بسقوطها عصبة الجهاد أو أوهنوا حد المجاهدين.
إن سقوط القصير كان بمثابة مقتل غلام الأخدود، الذي انتفضت على إثر موته أمته، فقد علمت الدول السنية الخادرة لما رأوا قطعان المجوس تستبيح القصير وتتجه إلى حلب المعالي، علموا أن الغرب قد توافق مع الروس والمجوس على اغتيال الشعب كما فعل في العراق، وعلم علماء المسلمين أن العالم بأسره قد تآمر على الشام، ورأى علماء الأمة أن سوريا تضيع، فتنادوا في محفل عظيم من كل الأطياف، ومن مختلف البلدان، وقد امتلؤوا غيرة وحمية للدين، واجتمعوا على إعلان الجهاد بالنفس والمال، إعلان سمعه الشرق والغرب، إعلان أرهب قلوب الأعداء من كل اتجاه، إعلان ذكَّر العالم بالقادسية واليرموك وعين جالوت.. لقد ثنت أمة الإسلام أعنة خيولها نحو طريق الجهاد.
إن أمة الإسلام لا تعاني اليوم نقصا في علمائها، ولا في جندها وشبابها، ولا في أموالها وعتادها، هي اليوم أغنى أمم الأرض بما بين أيديها من حقائق الوحي المعصوم، وما لديها من الشباب المتعطش للجهاد والشهادة، لكن العدو استطاع أن يدق إسفين الفرقة بين علمائها ومجاهديها، وبين حكامها ومحكوميها، فأصبحت قواها مفرقة، وغدا جسدها الكبير مفككا، ولعل إجماع العلماء، والتفات القادة نحو خيار الجهاد، والتفافهم حول لوائه، لعله بداية صحوة إسلامية عامة.
وبالأمس اجتمعت كلمة الأمة على الجهاد في أفغانستان، فما وضعت الحرب أوزارها إلا بعد أن سقطت إمبراطورية الروس، وليس أفغانستان فحسب، واليوم، لعل عصائب الجهاد لا تعود من الشام إلا بعد الصلاة في الأقصى، وتحرير الأمة من هيمنة الصليبيين، وليس ذلك على الله بعزيز.
واجب الوقت اليوم هو جمع الكلمة، ورأب الصدع بين فئات الأمة وشرائحها العاملة في ميادين الدعوة والجهاد، والكف عن التآكل الداخلي الذي يفرق ولا يجمع، ويذل ولا يعز، ويؤخر ولا يقدم، يقول سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: 46]