منذ بدء الدعوة إلى الإسلام وأمانة التبليغ والنصح للأمة إنما تقع على عاتق العلماء الربانيين الذين يعرفون حدود الله، ويؤدون زكاة العلم، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولايخشون ما قد يجمعه لهم كل عدو متربص بدعوة الأنبياء والمرسلين.
فهم بحق ورثة الأنبياء، كم جاء عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ العُلَماءَ ورَثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهًما؛ ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ". (أخرجه أبو داود:3641 واللفظ له).
وكما ورث هؤلاء العلماء الربانيين العلم من الأنبياء نجدهم قد ورثوا النصح للأمة، حتى يكاد أحدهم يهلك نفسه شفقةً وخوفًا على أمته وهو يرى ما هي عليه من جهر بالمعصية، وإعلان بالفواحش، واستهزاء وسخرية بأهل الفضل والصلاح، كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه، والذي وصفه الله تعالى بقوله:
}فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا{ [الكهف: 6].
فحينها تأخذهم الحمية على أمتهم وبني جلدتهم نجدهم يجأرون بالنصح والنصحية امتثالًا وإذعانًا لسيد الأنام، فيما راوه تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الدينَ النصيحةُ، إن الدينَ النصيحةُ، إن الدينَ النصيحةُ.
قالوا: لمَن يا رسولَ اللهِ؟
قال: للهِ، وكتابِه، ورسولِه، وأئمةِ المؤمنين وعامَّتِهم، وأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم". (صحيح سنن أبي داود: 4944).
ولسان حالهم في ذلك قول الله تعالى: }لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا{ [الإنسان: 9-10]
فهم - في نصحهم ودعوتهم - لا يبتغون مالًا ولا جاهًا ولا سلطانًا، وإنما يؤدون أمر الله في النصح لهذه الأمة.
وكان حريًّا بأمة فيها أمثال هؤلاء العلماء الربانيين أن تأخذ بنصحهم، وتسترشد بهديهم، وتقتفى خطاهم؛ علها تخرج من كبوتها، وتستيقظ من غفوتها، وتستعيد عزتها التي غابت عنها قرونًا طويلة.
ولكن وااسفاه!!
لقد وجدنا الإعراض والإباء، وذهبت أصوات الدعاة والعلماء أدراج الرياح، وسار من سار على طريق الجهر بالمعاصي والذنوب، وأزعجهم النداء، وأفزعهم الرجاء، فتنادوا بأن يصمت كل داعية بالحق، وأن يسكت كل ناصح أمين.
ووجد هؤلاء العلماء الربانيين من وسائل الإعلام الفاسدة وأصحاب الأقلام العلمانية المأجورة من يهددهم ويتوعدهم إن هم استمروا في السير على خُطا الأنبياء والمرسلين - رضوان الله عليهم أجمعين - .
وكأننا أمام مشهد مكرور عبَّر عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله:
}الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ [آل عمران: 173].
فلم يزدهم ذلك التهديد وهذا الإيذاء إلا إيمانًا بالله واتكالًا عليه، ولم يلتفتوا إلى ذلك، بل ثبَت به يقينُهم بالله تعالى وازداد اطمئنانُهم وأظهروا حميةَ الإسلامِ، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا كل ما أهمنا {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.
إنها نفوس العلماء الربانيين التي لا تعرف إلا اللّه وكيلًا، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيمانًا به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس: }حَسْبُنَا اللَّهُ،وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{.
وحسبنا أن نقول لأمتنا وبني جلدتنا، ناصحين، مشفقين، محبين:
}يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ{ [يس: 20-21].