وصف الله - تبارك وتعالى - نبيه إبراهيم – عليه السلام - بصفات عديدة في كتابه الكريم، جاءت مقترنة بدعوته للتوحيد، مما يوحى بأهمية هذه الصفات ومحوريتها لكل من أراد السير على نهج الأنبياء والمرسلين، وفي مقدمتهم إبراهيم – عليه السلام -.
وفي هذا المعلم من معالم التوحيد في دعوة إبراهيم - عليه السلام - سنتوقف عند قول الله تبارك وتعالى:
}إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(*) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(*) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(*) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ [النحل:120-123].
ففي هذه الآيات الكريمات من سورة النحل، يخبر تعالى عما فضل به خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وخصه به من الفضائل العالية والمناقب الكاملة، فيمدحه تعالى ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية، ويظهر بعض صفاته المتمثلة في الشكر، والهداية، ويأمر خاتم الأنبياء والمرسلين باتباع ذات الملة الحنيفية.
قال تعالى: }إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا{.
فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت: هو الخاشع المطيع، والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد، المقبل على الله بالمحبة، والإنابة والعبودية معرضًا عمن سواه.
ولهذا قال: }وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{، أي في قوله وعمله، وجميع أحواله؛ لأنه إمام الموحدين الحنفاء.
عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت، فقال: الأمة معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله. وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم، وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال:
من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له، فقال: أخبرني عن الأمة، فقال: الذي يعلم الناس الخير.
ووصف بأنه أمة لحيازته من الفضائل البشرية ما لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة كاملة، وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة أي مؤمنًا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار.
واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة،ويحتمل أنه كان إمامًا يقتدى به في الخير، وهما قريبان، فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته، فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد.
وقوله تعالى: }شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{.
وقد أوثر صيغة جمع القلة للإيذان بأنه - عليه السلام - كان لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة! وللتصريح بكونه - عليه السلام - على خلاف ما عليه أهل الشرك من الكفران بأنعم الله تعالى.
فقد آتاه الله في الدنيا حسنة، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة، فقام بشكرها، فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن {اجْتَبَاهُ} ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه، وخيار عباده المقربين، }وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ{ وهو ملة الإسلام، وعبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي.
قال تعالى: }وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}.
أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة من الرزق الحلال الطيب، والذرية الصالحة، والأخلاق المرضية، وقال مجاهد في قوله: وآتيناه في الدنيا حسنة، أي لسان صدق.
وقيل الحالة الحسنة من الذكر الجميل والثناء فيما بين الناس قاطبة، حتى إنه ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه، وقيل هي الخلة والنبوة.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
أي الذين لهم المنازل العالية والقرب العظيم من الله تعالى.
وقوله تعالى:}ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{.
والملة اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام، والمراد بملته -عليه السلام - الإسلام الذي عبر عنه آنفا بالصراط المستقيم.
فمن أعظم فضائله أن الله أوحى لسيد الخلق وأكملهم أن يتبع ملة إبراهيم - عليه السلام -، ويقتدي به هو وأمته، وذلك لكماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه.
فحري بدعاة التوحيد، واتباع الأنبياء والمرسلين، أن يتحققوا من تلك الصفات والخصال الحميدة، التي وصف الله بها نبيه إبراهيم – عليه السلام - فهي خير معين لهم في إبلاغ رسالتهم، ونجاح دعوتهم، وبلوغ غايتهم.