ما أعظم القرآن الكريم، وما أحكمه! ما أصدق قيله، وما أدقَّ تفصيله! تمُرُّ بك الأحداث العظام، والأهوال الجسام، ثم تفتح كتاب الله فإذا هو يحدثك عنها، كأنه نزل للتو على إثرها. يقول جل شأنه في كتابه العزيز: {...ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 4-9].
إن الطغاة الجبابرة، الذين يصدون عن سبيل الله، ويحاربون شريعته ودينه.. الذين يفسدون في الأرض، ويستضعفون عباده، إنهم مهما ظهروا بمظاهر القوة والبطش والغطرسة والجبروت.. مهما كثرت أعوانهم، وامتدت أموالهم.. مهما كثر جندهم واشتد عتادهم، مهما تراءوا لأنفسهم وللمخدوعين من أتباعهم بأنهم أقوياء، وأنهم مقتدرون، وأنهم يقولون ويفعلون- ما هو واللهِ إلا حفنة من خلق الله على هذا الكوكب الصغير، الذي لا يساوي هباءة في ملك الله عز وجل، لو شاء الله لانتصر من أعدائه جهرة والناس ينظرون، كما انتصر من أسلافهم بالطوفان، والصيحة، والريح العقيم، لكنه عز وجل يقدِّر المواجهة، ويشرع الجهاد والمناهضة، لأنه يريد الخير لعباده وأنصار شرعته وحملة دينه.
يريد سبحانه أن يبتلي عباده المؤمنين، ويربيهم ويصلحهم ويزكيهم. يريد الله أن يسوق لهم الأجور العظيمة، والحسنات الكبار. يريد الله أن يرفعهم المقامات العليا التي أعدها لهم في غرف الجنة. يريد الله أن يظهر للناس فوزهم وصلاحهم، وطهر مسلكهم، ونقاء منهجهم. يريد عز وجل أن يبتليهم في أموالهم ودمائهم وأبنائهم بما يرفع به ذكرهم في الدنيا والآخرة، يريد سبحانه أن يعمق إيمانهم، ويرسخ اليقين في قلوبهم، ليروا حقائق الوحيين ماثلة أمامهم، وليعرفوا معنى قوله عز وجل: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، وقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}. ويريد سبحانه أن يمايز الصفوف في ميدان الصبر والجهاد، {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال: 37]، {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].
إن الدماء والأدواء والقروح والجروح عندما يبتلي الله بها عباده، فإنها منحه العظيمة، وعطاياه الكريمة، {لاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 140-142].
أما أعداء الله وخصوم دينه والكارهون لشريعته، فإنهم لا يعجزون الله عز وجل، ولكن الله يريد أن يبتليهم بالمؤمنين، لفضح دعاويهم، ويهتك أستارهم، ويبلو أخبارهم، ويخرج ضغائن قلوبهم، ويكشف للناس أوجههم الكالحة، وقلوبهم المظلمة، وعمالتهم المخزية، وأيديهم الآثمة القاتلة.
فثمة جيوش كانت توصف بأنها عظيمة، وتدعي حماية أوطانها، فإذا هي مخلب للعدو، وكماشته القذرة، التي اختطفت الأوطان والشعوب لصالح اليهود والنصارى.
ثمة محاكم، ودوائر عدلية تدعي العدل والنزاهة والحيدة والشرف، وتوصف بالشموخ، فإذا هي ساقطة يكشف الله تهافتها، ويفضح مهمتها التي أخلصت لها مذ كانت، بتنحية شريعة الله، ونبذ حكمه، وإحلال القوانين الوضعية التي لا تعترف بإلوهية الله، وتنكر حقه في التشريع، تعترف بأنه سبحانه له الخلق، ولا تقر بأن له الأمر، تقول إنه في السماء إله، وتنكر أنه في الأرض إله، تضع حكم الله وترفع حكم الجاهلية، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 50]، وذلك يدل على أنه لا يوجد غير حكمين: حكم الله، وحكم الجاهلية، فمن لم يحكم بحكم الله وشريعته، فإنما يحكم بحكم الجاهلية وجهلها.
لقد فضح الله هذه المؤسسات الكالحة، الكارهة لدين الله، وأظهر عوارها، فهي علة العلل في بلاد الإسلام، فمنذ أن دخلت هذه القوانين، وأمة الإسلام ترذل عاما بعد عام.
وهذه القوانين البالية التي يزعمون إحكامها، ودقتها على الفصل بين المختصمين، قد أظهر الله ضعفها واضطرابها، وتفككها، وثغراتها التي لا تُحصى، وانظر إلى جدل دهاقنتها وكهنتها، وخلافاتهم في تفسير موادها، تدرك أنها كومة أهواء جدلية خرقاء، لا تداني شرعة الله النقية البيضاء، وليست بعدل لها، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين: 8]
إن إخواننا المستضعفين في بلاد الإسلام اليوم، ظلموا واللهِ ظلما شنيعا بينا لا لبس فيه ولا شبهة، حتى قال المنصفون: "لا يخفى الظالم من المظلوم.. إلا على جاهل مستحكم الجهل، أو صاحب هوى غارق في هواه"، وقالوا: "لا يصف الحق البين بالفتنة المشتبهة، إلا جاهل بالحال، أو جاهل بالدليل، أو مفتون في الدين". وعندما يتضح الحق، فإن الفتنة الحقة هي خذلان المظلوم، والسكوت عن الظالم، وحسبك أن هؤلاء المظلومين يطالبون بتحكيم شريعة الله، ويقاومون تيارات العلمنة والفساد وعملائهم. وهم مع ما سال من دمائهم، وأزهقت من أرواحهم، وأتلفت من ممتلكاتهم، لا يزيدون على "حسبنا الله ونعم الوكيل"، ووالله لينصرنهم الله ولو بعد حين، وأيم الله، ليعلمنَّ الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.