رحل رمضان، وقد كان مضمارا استبقت فيه نفوس الأحرار إلى الله والدار الآخرة.. صعدت أيام رمضان ولياليه مختومة على ما فيها من أعمال، وغدا يجد كل امرئ ما عمل كاملا غير منقوص.
في رمضان خفَّت نفوس الصالحين للسباق، واستقامت على الطاعة، وفرحت بالقربى من خالقها، واستروحت نسائم الرضا والرحمة والهداية.
في تلك الأيام العاطرة، والليالي الزاهرة، استيقظت العزائم، وتجاوبت الهمم، وذاقت قلوب المؤمنين برد الطاعة، ونعيم الخشوع، وودت نفوس المؤمنين أن لو كان الدهر كله رمضان، ذلك أن النفوس لانت عرائكها، وسهل قيادها، وألفت دروب القربات، فاستراح أصحابها من عناء الترويض، ومشقة مجاذبة الأهواء، ومصارعة الضعف.
لكن بعد انقضاء رمضان، وتصرم أيامه الحسان، يعود الناس لضجيج حياتهم، وجلبة مشاغلهم، فتتراخى الهمم، وتلين العزائم، وتفتر النفوس عن كثير من الطاعة والقربات إلا من رحم ربك! والمؤمن يعلم أن خالقه تبارك وتعالى، يطالبه بدوام الاستقامة، ولزوم طريقها ما حيي وعاش، يقول عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}[هود: 112]، ويقول سبحانه: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت: 6].
والاستقامة هي حقيقة الدين، وهي مسلك النجاة الوحيد، لأنها تعني دوام الطاعة، ودوام السلامة من الآفات، وتلك هي التي أقلقت ليل الصالحين، وجاهدت فيها نفوس المؤمنين، جاء رجل إلى النبي صلى اله عليه وسلم يريد أن يفهم الإسلام في كلمة واحدة، يريد أن يأخذ الدين كله بهذه الكلمة، فعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك أو بعدك، قال عليه الصلاة والسلام: "قل آمنت بالله ثم استقم"(صحيح الجامع 4395).
والاستقامة هي مداومة الطاعة، والالتزام المستمر الدائم بأداء الفرائض، والمجافاة الدائمة والحذر المستمر عن المعاصي والآثام، وبالخصوص كبارها، فليست علاقة المؤمن بربه علاقة موسمية عرضية منقطعة، تتصل في رمضان ثم نتقطع في غيره.. ليست المعاصي والآثام محرمة في شهر مباحة في غيره، ليست الاستقامة والتدين مرهونة بزمن معين، لكنها ممتدة امتداد الحياة، بل إن الحياة ذاتها يجب أن تكون كلها عبادة، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام: 162-163].
ولا عجب أن تكون حياتك كلها عبادة لله، فإنك لذلك خُلقت أيها المسلم، وهذه مهمتك ووظيفتك التي يجب أن تلقى ربك عليها، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]. والمستقيمون على أمر الله هم الآمنون في دنياهم وأخراهم، يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت: 30]
سلعة الله أيها المؤمنون غالية غالية، لا تُنال إلا بالصبر والمصابرة والرابطة على دين الله، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، لكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأقوال والأعمال، يقول عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}[المائدة: 68]، وهذه الآية تتضمن أيضا نداء واضحا للمسلمين، أن لستم أيها المسلمون على شيء حتى تقيموا القرآن، حتى تعملوا بما فيه وتلتزموا بما جاءكم به، وتلك مرتبة عليا لا يستطيعها عديم الهمة، ولا مريض النفس، الذي لا يطيق الالتزام بشرائع الدين إلا شهرا في السنة، أو يوما في الأسبوع.
ولا بد للمسلم الحصيف أن يتأمل في أسباب فتوره وعلة توانيه، لا بد أن يتفحص نفسه ساعة ارتخائها، لماذا وهنت عزيمتها؟ لماذا بردت همتها؟ لماذا يتثاقل عن الصلاة وقد خف لها يوما أو أياما؟ لماذا تشح بالخير يده وقد جادت به من قبل؟ لماذا يتجافى عن القرآن وقد صحبه زمنا؟ لماذا جف لسانه عن ذكر الله وقد كان رطبا بذكر الله وكلامه؟ لماذا الكسل والتواني بعد النشاط والعمل؟!
ولا شك أن رمضان له خصوصية ودافعية، لكن المعيب هو الانقطاع عن الطاعات المحكمة كالفرائض، أو التراخي عنها، والمعيب هو إتيان الذنوب الكبيرة التي تقدح في إيمان المرء، وقد تمدَّح الله ملائكته بقوله عز وجل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء: 20]، فلم تكن ميزتهم أنهم سبحوا، بل ميزتهم أنهم استمروا ولم يفتروا.
كم يتوق المؤمن أن يكون له ورده من الطاعات والقرآن والذكر والصيام، لكن دون ذلك عوائق كثيرة يجب أن يعرفها، ومنها عدم التوازن، كأن يكلف نفسه ما لا تطيق، ثم لا يستطيع الاستمرار، قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم من الأعمالِ ما تُطيقون . فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا . وإنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دُووِمَ عليه وإن قَلَّ"(صحيح مسلم 782)، فتدرج بنفسك من الأدنى إلى الأعلى، وسسها سياسة الحكيم الحاذق.
كما أن التعمق بالدنيا، والتوسع في المباحات، وتتبع مطامع الأرض، كل ذلك يوهي العزم، ويثلم الهمة، فتستعصي على المرء نفسه، وربما انقطع عن المسير إلى ربه، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}[التوبة: 38]، ولا تجد حريصا على الدنيا، راكضا وراءها، مشغولا بمتاعها وزخرفها، إلا ألفيته قليل الذكر لله، ضعيف الحفاظ على فرائضه، أما عن مكابدة الليل بالقيام، والنهار بالصيام، فهو مشلول الإرادة، لا يستطيع ذلك ولا يحاوله أصلا، قال عز وجل: {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان: 27]، فمن آنس من نفسه إخلادا إلى الأرض، ورأى أن دنياه قد أعاقت مسيره إلى ربه – وكلنا ذاك الرجل - فعليه أن يذكر الموت والدار الآخرة.
إن من أهم عوامل النشاط في رمضان، التعاون على البر والتقوى، وانشغال المجتمع كله بالطاعات، واستيحاشه من المعاصي، وعندئذ يستيقظ عزم النفوس، فذلك الشعور الجماعي أعان كل امرئ على نفسه، فسهل عليه قيادها، وهذا يعلمنا قيمة الصحبة الصالحة، والأسرة المؤمنة، والبيئة النقية، والمجتمع الفاضل، الذي إذا أحاط بك أخذك معه في تيار الصالحين، ولذلك جاءت وصية الله بلزوم أهل الطاعات {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28]، فالجلساء هم سر صلاح الناس أو فسادهم، وكل امرئ مطالب بانتقاء جلسائه، الذين يعينونه على النجاة من أهوال الآخرة وعذاب النار، فصحبة البطالين تطفئ نور القلب، وتعشي عين البصيرة، وتثقل سمعه، وتضعف قواه، وتفتر عزيمته.
فيا أيها الشاكي ضعف نفسك، وهبوط عزيمتك: داؤك من جلسائك، فالبطالون قطاع الطريق إلى الله والدار الآخرة، فاختر من يعينك على نفسك، فصحبتك في الدنيا هم صحبتك في الآخرة، والأخيار في جنان الخلد يتزاورون، وغيرهم في جهنم يتخاصمون، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20].