روى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن البصريّ قال:
"إن الله افتتح السنة بشهر حَرَام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم"، وكان يسمى شهر الله الأصم؛ من شدة تحريمه.
وقال أبو عثمان النَّهْدِيّ:
"كانوا يعظِّمُونَ ثلاث عشرات؛ العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرم".
كما قيل:
إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى - عليه السلام - أربعين ليلة، وإن التكلم وقع في عاشره.
وأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى في هذا الشهر هو الصيام، فقد خرَّج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أَفْضَلُ الصِّيَام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المُحَرَّم، وَأَفْضَلُ الصَّلَاة بَعْد الفَرِيضَة قِيَام اللَّيل". (صحيح مسلم: 1163)
وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، وقد يحتمل أن يراد: أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملًا بعد رمضان، فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفة أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك.
والتطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم، فهذا أفضله المحرم، كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان، وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان، ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر.
شهر الحرام مبارك ميمون * والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه * في الخلد عند مليكه مخزون
ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان، وكان صيامها كلها مندوبًا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها ختام السنة الهلالية، وبعضها مفتاحًا لها، فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه، وصام المحرم، فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة؛ فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
وختامًا:
فإنه يتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
قطعت شهور العام لهوا وغفلة * ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجبا وافيت فيه بحقه * ولا صمت شهر الصوم صوما متمما
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي * مضى كنت قواما ولا كنت محرما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعَبرة * وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة * لعلك أن تمحو بها ما تقدما