الدعوة إلى التوحيد هي لبُّ الدين وأساسه؛ وهي التي بدأ بها كل نبي مرسل؛ كما قال سبحانه مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
وقد كان كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ويدخل في ذلك التحذيرُ من أنواع الشرك، وحضُّ الناس على أن يفردوا ربهم جلَّ جلاله بأنواع العبادة كلها، وأن يَقدُروه حق قدره؛ وهذا الذي ينبغي تقديمه على كل شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات... الحديث" (صحيح البخاري 1458)، فقدَّم صلى الله عليه وسلم التوحيد على العبادات العملية، والتي هي ثمرة التوحيد ومظهره العملي.
وحتى تؤتي الدعوة للتوحيد أكلها، وتحصد ثمرها، كان لا بد من التنبيه على مسائل في أساليب الدعوة:
فمنها: أن الدعوة للتوحيد لا تعني بالضرورة الإساءة للمدعوين؛ فإن بعض الناس يظن أن من لوازم الدعوة إلى التوحيد ذكر المخالفين بأسمائهم أو طوائفهم وطرقهم، والتشنيع عليهم، وربما السخرية منهم ومن عقائدهم ومشايخهم المعظَّمين عندهم، مما يفضي إلى إعراضهم عن قبول الحق واستمساكهم بما هم عليه من الباطل، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
ومنها: ليس من لوازم الدعوة إلى التوحيد الإغلاظ على الناس واستعمال الشدة معهم، بل الإغلاظ يكون على الكفار والمنافقين حال الجهاد، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]، وإلا فإن الأصل في الدعوة أن تكون بالرفق وبالتي هي أحسن حتى مع الكافر، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، والكتابي {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، وقد علمنا من قطعيات الدين بأن الرفق لا يعدله شيء، وأن لين القول والمجادلة بالحسنى والدفع بالتي هي أحسن أمور مطلوبة حتى مع الكافر الأصلي.
ومن الأساليب: أن الدعوة إلى التوحيد مجال واسع قد يلج إليه الشخص من خلال تفسير آية من القرآن، أو شرح حديث في السنة، أو سرد موقف من السيرة، أو بيان حكم في الفقه العملي، أو غير ذلك من أبواب العلم، وليس من شرط بيان التوحيد أن يكون الدرس أو الخطبة أو الكتاب معنوناً بهذا العنوان؛ والداعية البصير قد يتناول التوحيد ويشرحه حين يتحدث عن السيرة أو التفسير أو الحديث أو الفقه، فالعلوم الإسلامية متضافرة يخدم بعضها بعضاً، وليس بالضرورة أن يكون عنوان الدرس (التوحيد) من أجل أن يكون توحيدا؛ فإن الله تعالى ما تعبَّدنا بالأسماء، والنظر الشرعي إنما يكون في المضامين لا العناوين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه بطرح سؤال أو سرد قصة أو ضرب مثل أو غير ذلك من الأساليب.
ومنها: أن الدعوة إلى التوحيد تشمل أبواباً كثيرة من العلم، كلها داخل تحت هذا العنوان الكبير، فنهي الناس عن الرياء والطيرة وتعليق التمائم توحيد، كما أن أمرهم بالتوكل على الله واللجوء إليه والاستغاثة به والنذر له وإخلاص العمل له وموالاة المسلمين والبراءة من الكافرين توحيد، وكذلك الحديث عن عذاب القبر ونعيمه وأشراط الساعة والجنة والنار والصراط والميزان والحوض والعرش والكرسي توحيد، والحديث عن صفات الكمال والجمال لذي الجلال والإكرام توحيد، وتذكير الناس بوجوب الحكم بما أنزل الله، ونبذ القوانين الجاهلية الوضيعة توحيد، والحديث عن النبوات وشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعجزاته توحيد وهكذا.
إن مثل هذه الطرق الوسائل المتزنة الحكيمة في الدعوة للتوحيد، هي في الحقيقة ترجمة صادقة واستجابة واضحة لقوله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ}، وهي في الواقع الطريق السالك الميسَّر للقلوب، لأن تلك القلوب التي تشربت بشوائب الشرك وأقذاره حينا من الدهر، تحتاج للطبيب الماهر الذي يشخص الداء، ويسكِّن الألم، ويعقم الجرح، ثم يضع عليه الدواء الشافي.. فكن أنت كذلك أيها الداعي الحبيب.