في بدايات الدعوة إلى الإسلام اجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا، بعدما رأوا اجتماع بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وهي المقاطعة الشاملة، والحصار الاقتصادي، والتجويع الجماعي في شِعْب أبي طَالِب، وكان السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم حَيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة، ومِنْ ثَمَّ تنتهي دعوة الإسلام في مَهْدِهَا.
ثم يذكر لنا التاريخ حِقْبَة "محاكم التفتيش" البغيضة في أوروبا، وهي هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كانت تتولى لقبض على المسلمين الرافضين للتنصر قَسْرًا والذين يتظاهرون بالتنصر تخلصا من التعذيب والاضطهاد، ومارست ضدهم أساليب شتى من القهر والقمع والتعذيب والتقتيل لإجبارهم على التنصر، ولضمان استتباب الأمر لحكام الأندلس الجدد، الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند.
أما الحاضر فيشبه حالة مماثلة تمامًا، من حيث الأهداف والملابسات، وإن اختلفت التفاصيل قليلًا، ونقصد على وجه التحديد ما يحدث لملايين المسلمين في جمهورية تركستان الشرقية المحتلة من قبل الصين من سجن مليون مسلم في معسكرات اعتقال تحت دعوى التثقيف، بغية حرفهم عن دينهم والالتزام بالنظام الشيوعي المعادي للإسلام!
ومن "حصار الشعب" إلى "محاكم التفتيش" إلى "معسكرات التثقيف" يصور لنا القرآن الكريم حقيقة المعركة ويجلي لنا الهدف بوضوح شديد، قال تعالى:
}وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا{ [البقرة: 217].
فهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الإسلام والتوحيد والعقيدة في كل أرض ومع كل جيل.
إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ولأعداء المسلمين في كل حين.
إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم، فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد.
إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم، إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد والظلم، ومن ثم لا يطيقه المبطلون المفسدون الظالمون.
وها نحن نراهم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفارًا؛ ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض فئة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذه العقيدة.
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتًا أن يردوا المسلمين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحًا غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها.
والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر المسلمين من الاستسلام، وينبههم إلى الخطر ويدعوهم إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر، قال تعالى:
}وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ{
وهذا التحذير من اللّه قائم إلى آخر الزمان .. ليس لمسلم عُذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه وعقيدته، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. فهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن اللّه، واللّه لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله، فهو معوضهم خيرًا، ولن يكون مصير هؤلاء الذين يفتنون المؤمنين عن دينهم بأفضل من حال كفار قريش، ولا الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند، وهو مصير معروف محتوم، قال تعالى:
} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ{ [البروج: 10].