قال الله تعالى:
}اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [التوبة:31].
{أَحْبَارَهُمْ} وهم علماء اليهود. {وَرُهْبَانَهُمْ} وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع.
{أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم.
وفي قصة عدي بن حاتم - كان رئيسًا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، وكان قد تنصر في الجاهلية - أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَّ إلى الشام وأُسِرَت أخته وجماعة من قومه، ثم مَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغَّبَتْهُ في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقِدَم عديٌّ إلى المدينة، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليبٌ من فضة وهو يقرأ هذه الآية: }اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ{.
قال عديّ: فقلتُ: إنهم لم يعبدوهم!
فقال: "بلى، إنهم حَرَّمُوا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم".
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"يا عدي ما تقول؟ أيضرك أَنْ يُقَالَ: الله أكبر! فهل تعلم شيئًا أكبر من الله!
ما يضرك؟ أيضرك أن يُقَالَ: "لا إله إلا الله" فهل تعلم إلها غير الله"؟!
ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشَهِدَ شهادة الحق. (راجع قصة عدي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: ابن هشام : السيرة النبوية (مع الروض الأنف) 4 / 211، ابن كثير: البداية والنهاية 3 / 127، 5 / 63، الصالحي : سبل الهدى والرشاد 6 / 579).
وتفسير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقول اللّه سبحانه نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض، الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير الإنسان من العبودية لغير اللّه تعالى.
قال عبد الله بن عباس: "اتبعوهم فيما حللوا وحرموا".
وقال السُّدِّيّ: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
قال السَّعْدِيّ: وكانوا أيضًا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم، ويتخذون قبورهم أوثانًا تعبد من دون الله، وتقصد بالذبائح، والدعاء والاستغاثة.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} عطف على رهبانهم، أي اتخذه النصارى ربًا معبودًا بعد ما قالوا إنه ابنه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وتخصيص الاتخاذ به يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير، وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له صلى الله عليه وسلم ربًا معبودًا أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم - كما هو المراد باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا - لأنه مختص بالنصارى. ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى أمه من حيث دلالتها على مروبوبيته النافية للربوبية للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة.
أما عن بني إسرائيل، فقد قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوال الأحبار فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتاب الله.
ولهذا قال تعالى: }وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{. }إِلَهًا وَاحِدًا{ أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ،وجميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة، وأما إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر من أمر الله تعالى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله - عز وجل -.
}لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{ أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه.
فهذه الآية الكريمة لتؤكد أن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية للّه وحده وذلك بتلقي الشرائع منه وحده، وبهذا يكون الدين كله للّه، أي تكون الدينونة والخضوع والإتباع والعبودية كلها للّه - سبحانه وتعالى -.