قال الله تعالى:
} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.{ [البينة: 5]
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} [البينة: 1] قَالَ: وَسَمَّانِي؟! قَالَ: نَعَمْ. فَبَكَى". (متفق عليه، البخاري: 3809- ومسلم: 799).
وقوله تعالى: }وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ{ مفيدة لغاية قبح ما فعل الكفار، أي: والحال أنهم ما أُمروا في كتابهم إلا أن يعبدوا الله؛ إذ الكتب كلها جاءت بأصل واحد، ودين واحد.
وقوله تعالى: }مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ{ أي: جاعلين دينهم خالصًا له تعالى، قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله، وطلب الزُّلْفَى لديه، أو جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين.
والإخلاص ألّا يكون شىء من حركاتك وسكناتك إلّا لله. ويقال: الإخلاص تصفية العمل من الخلل، وهو على ثلاث معانٍ: إخلاص العبادة لله، وإخلاص العمل له، وإخلاص القلب له.
ولهذا قال: }حُنَفَاء{ أي: متحنفين عن الشرك إلى التوحيد، ومائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام.
} وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ{ وهي أشرف عبادات البدن.
} وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ{ وهي الإحسان إلى الفقراء والمحتاجين.
وإن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها.
وخص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنهما داخلان في قوله {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} لفضلهما، وشرفهما، وكونهما العبادتين اللتين مَنْ قام بهما قام بجميع شرائع الدين.
}وَذَلِكَ{ إشارة إلى ما ذَكَرَ من التوحيد، وعبادة الله تعالى، والإخلاص، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوِّ رُتبته وبُعد منزلته.
}دِينُ الْقَيِّمَةِ{ أي: الملة القائمة العادلة، الموصِّلة إلى جنات النعيم، وما سواها فطُرُقٌ مُوَصِّلَةٌ إلى الجحيم.
وقد استدل كثيرٌ من الأئمة بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، فقد:
- أخرج ابن أبي حاتم (19430) عن عقيل قال: قلتُ للزهري: يزعمون أن الصلاة والزكاة ليس من الإيمان، فقرأ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ترى هذا من الإيمان أم لا؟!
- وأخرج ابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح أنه قيل له: إنَّ قومًا قالوا: إن الصلاة والزكاة ليسا من الدِّين، فقال: أليس يقول الله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} فالصلاة والزكاة من الدين.
- وأخرج عَبد بن حُميد عن المغيرة قال: كان أبو وائل إذا سُئل عن شيءٍ من الإيمان قرأ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
إنه دين واحد، وعقيدة واحدة .. دين لا غموض فيه ولا تعقيد، وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف، وهي بهذه النصاعة، وبهذه البساطة، وبهذا التيسير.
فأين هذا من التصورات المعقدة، والجدل الكثير الذي اخترعه الفلاسفة وأرباب علم الكلام؟!
فالدين في أصله واضح، والعقيدة في ذاتها بسيطة؛ خلاصتها: عبادة اللّه وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك وأهله، وأداء العبادات المفروضة، فمن حقق هذه القواعد فقد حقق معنى التوحيد.