SNW

Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

  قبســـات

قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: وجملة التوكل؛ تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه، والثقة به.



1441533093_7507069134.jpg
كلمة الموقع

ركضا إلى الله بغير زاد .. إلا التُّقى

 أسبغ علينا ربنا من النعم أعظمها وأكرمها، وما بنا من نعمة ظاهرة أو باطنة إلا من الله، وإن من أجَلِّ تلك النعم وأعظمها، هذه الشرائع الكريمة، التي تزكو بها النفوس، وتصفو بها السرائر، وتطمئن بها القلوب، وتطيب بها الحياة، وتأملوا قول ربكم جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، فما كتبه الله إضرارا بنا، ولا إعناتا لنا، ولكن إنعاما وتفضلا علينا، فتقوى الله عز وجل هي الثمرة التي تنتظركم من صومكم أيها المؤمنون، وحسبك بها من ثمرة، تطيب معها الحياة، وتحصل بها النجاة، وتدخلوا بها جنة ربكم، وتفوزوا برضاه.

إن الراكضين في ميادين الدنيا يظنون أن بهجتها ونعيمها وسعادتها في كثرة الأولاد، أو حسن النساء، أو وفرة الأموال، أو زهرة الضياع والبساتين، لكنهم إذا حاذوها لم يجدوا ما طلبوا، بل في كثير من الأحيان لا تزيدهم إلا قلقا ورهقا، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد}[آل عمران:14-15]، كل ذلك للذين امتلأت قلوبهم بتقوى الله عز وجل، فيا لها من منقبة عظيمة، وخلة كريمة، بلغت بأصحابها أعلى المنازل، فمن هم المتقون، وكيف بلغوا منازل التقوى؟

لقد بين الله لنا صفات المتقين في الآيتين التاليتين، {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:16-17]، فهؤلاء البررة يعلنون تصديقهم بربهم، وكتبه ورسله، يعلنونه قولا وعملا واستقامة، يعلنونه بألسنتهم وقلوبهم وثباتهم على الطريق، وصبرهم على واجباته وتبعاته، ثم يسألون الله المغفرة، وأنهم مع كل ذلك تراهم مشفقين، خائفين، وجِلين من عذاب الله، يطلبونه النجاة من النار.

هذه حالهم الباطنة من التصديق والخوف والإشفاق، أما أحوالهم الظاهرة فهم صابرون على أداء ما افترض الله عليهم، صابرون عما حرم الله عليهم، صابرون على ما يبتليهم الله به. أورد الحافظ ابن كثير، عن مجاهد قال: "كُتب إلى عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين: "رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟" فكتب عمر: "إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها، (أي يحجزون أنفسهم عنها، ونفوسهم تجاذبهم إليها)، فأولئك الذن امتحن الله قلوبهم للتقوى".  

{وَالْقَانِتِينَ}، والقنوت هو دوام الطاعة، هو ديمومة القربات والاستقامة، وليست الطاعات المؤقتة الموسمية، لكنهم مداومون عليها وإن قلَّت، ومع ذلك هم خاضعون لربهم، يأتون طاعاته بقلوب وجلة متذللة متلذذة، تلك نعوتهم فيما بينهم وبين ربهم.

أما مع الناس، فـ{الْمُنفِقِينَ}، فهم باسطو أيديهم بالخير، باذلو أموالهم في سبيل الله، أداءً للزكاة، وتقرُّبا بالصدقات، وفعلا للقربات، وصلةً للأرحام والقرابات، ومواساة لذوي الحاجات. وسلوا التاريخ عن أيادي المتقين، سلوا التاريخ عن عطايا أصحاب القلوب المتَّقية، فعثمان يجهز جيشا بأكمله، وابن عوف يفرِّق قافلة بأسرها في أهل المدينة، والصديق يخرج بماله، والفاروق بنصف ماله، ونساء المهاجربن والأنصار يخلعن حليهن، كل ذلك لوجه الله، كل ذلك من آثار التقوى التي وقرت في قلوبهم رضي الله عنهم أجمعين.

ويأتي النعت الأخير لأهل التقوى، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}، وذلك نعت تكرر في القرآن، بصيغ متعددة، {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:17-18]، يبيتون رُكَّعا سجدا، حتى إذا أسحروا نصبوا لربهم، ففرغوا للاستغفار، قال الحسن البصري: "كانوا يصلون أول الليل، حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار"، هذا نهارهم، وهذا ليلهم، بل هذه قلوبهم وحياتهم.

تلك هي التقوى التي وصانا الله بها، والتي أمرنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي فرض الله علينا الصوم من أجلها. تلك هي التقوى التي تنادى لها الصالحون، وحث عليها المصلحون، وإن من أعظم أسرارها أن أهلها إذا زلت بهم أقدامهم، أو غفَت ضمائرهم ساعة، فقارفوا خطأ، فإنهم سريعو الفيأة، ينهضون بعد العثرة، بل إن زلَّتهم تزيدهم عبودية لله، وانكسارا بين يديه، وخضوعا إليه.

ولما سرد الله سبحانه وتعالى بعض أوصاف المتقين، لم ينف عنهم الوقوع في المعصية، ولم يبرئهم من الذنب، بل قال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الفرقان:135]، إنهم مثل غيرهم يقعون في الخطأ، ولكنهم يتميزون بعدم الإصرار. إنهم مثل غيرهم قد يستزلهم الشيطان، لكنهم يتميزون بأنهم سرعان ما يذكرون الله، فيفيقون ويندمون، ويقلعون ويتوبون، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف:201]، فهم ذوو أفئدة يقظة، وقلوب حية، إذا نبت أنابت، وإذا أخطأت تابت، إنها لا تستمرئ المعاصي ولا تركن إلى الذنوب، وحسبك من ذلك ما ثبت من قصصهم العظيمة، وهل عرف التاريخ مثل حديث ماعز، أو الغامدية أو أبي لبابة، أو ندم كعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قلوب عمرت بالتقوى فما وجد الشيطان إليها سبيلا.

وإذا رأيت المرء يصيب الذنب ويتبعه الذنب ثم لا يتذكر ولا يتوب، فاعلم أن التقوى في قلبه مضمحلة، وإذا مضى المرء في صيامه ولم يحدث له توبة عما ألِف من الذنوب من المعاصي، فليعلم أنه صيام مدخول لم يورث قلبه التقوى، ولم يورث نفسه الخشية، فليتُب إلى الله من صيامه هذا إلى صيام خير منه.

إن شهر رمضان بين الشهور كالدرة وسط العقد، يتطلع له الموفَّقون، ويترقبه المؤمنون ليغنموه، فهم به فرحون مستبشرون، يشفقون من فواته، فهو مضمار سباق، وساحة تنافس ومسارعة، وأسبق القلوب فيه هي قلوب التائبين الخائفين الوجلين، المتجافين عن المعاصي والذنوب، فإن الذنوب تقيِّد القلوب، وتوهن العزائم، وهي حفر على جنبات الطريق، وكم ذنب حرم صاحبه من خير كثير، فما أحسن أن نستقبل رمضان بالتوبة {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31]

مرات القراءة: 1241

مرات الطباعة: 65

* مرفقات الموضوع
 
تعليقات الموقع تعليقات الفيسبوك