قال تعالى:
}قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا{ [الجن: 20 - 22].
سبب نزولِ هذه الآية أنَّه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة يدعو الله وحده مخالفًا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد الكفّار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نُجِيرُك، فنزلت هذه الآيات الكريمات.
قال تعالى:
}قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا{: قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذَّبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته: "إنما أدعو ربي" أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه ولا أشرك به أحدًا، ومن ثم فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عداوتي.
وقوله تعالى: }قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا{ فيها أمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتجرد ويؤمر أن ينفض يديه من كل ادعاء لشيء هو من خصائص اللّه الواحد الذي يعبده ولا يشرك به أحدا، فهو وحده الذي يملك الضر ويملك الخير، ويجعل مقابل الضر الرشد.
أي: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ، وعبد من عباد الله، ليس إليَّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله - عز وجل -.
وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أكمل الخلق، لا يملك ضرًّا ولا رشدًا، ولا يمنع نفسه من الله شيئًا إن أراده بسوء، فغيره من الخلق من أرباب الطرق ومشايخ الصوفية من باب أولى وأحرى.
وفي هذا الشطر من الآية تهديد عظيم للمشركين، وتوكل على الله - عزّ وجلّ -، وإنه هو الذي يجزيه بحُسن صنيعه، ويجزيهم بسوء صنيعهم، وفيه إيماء إلى أنه لا يَدَع التبليغ لتظاهرهم عليه.
ثم أخبر عن نفسه أيضًا: }قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ{ أي لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه.
وهنا يظهر أمره - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالافتقار واللجوء إليه، ثم بإظهارهما بقوله ليزيد بذلك للكافرين ضلالًا وللمؤمنين إرشادًا، وهي كلمة الإخلاص في التوحيد، إذ حقيقة التوحيد هو النظر للحق لا غير، والإقبال عليه، والاعتماد، ولا يتم ذلك إلا بالإعراض عما سواه، وبإظهار الافتقار واللجوء إليه.
}وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا{ أي: لا نصير ولا ملجأ، والمعنى: ولن أجد عن الشدائد ملجأً غيره سبحانه وتعالى.
وهذا بيان لعجزه عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عن شؤون غيره؛ أي: وإذ لا أملك لنفسي شيئًا، وكيف أملك لكم شيئًا؟!