تعرضنا لمعالم التوحيد في سيرة نبي الله يوسف - عليه السلام - على مدار ست حلقات سابقة، وبقي أن نتعرف على الخصال والسمات التي ذكرها الله - عز وجل - عن يوسف - عليه السلام - وبها استحق أن يكون داعية للتوحيد، ونبيا من أنبياء الله عز وجل.
أول تلك الخصال هي الإحسان، وقد تكرر لفظها في سورة يوسف في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول، جاء مقترنا بالبلاغ والرسالة، قال تعالى:
}وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 22]
{وَلَمَّا بَلَغَ} يوسف - عليه السلام - {أَشُدَّهُ} أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة والرسالة. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي: جعلناه نبيًا رسولًا وعالمًا ربانيًا، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم علمًا نافعًا.
أي وكذلك شأننا وسنتنا في جزاء المتحلين بصفة الإحسان، الثابتين عليه بالأعمال، الذين لم يدنسوا فطرتهم ولم يدسوا أنفسهم بالإساءة في أعمالهم، نؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، والعلم الذي يزينه، ويظهره القول الفصل، فيكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه، وبما يكون له من حسن التأثير في صفاء عقله، وجودة فهمه وفقهه، غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتى مثله المسيئون باتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم.
ودل هذا، على أن يوسف - عليه السلام - وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.
وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنًا من أعماله متقيًا في عنفوان أمره، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
الموضع الثاني: في تعامله مع أصحاب السجن، كما في قوله تعالى:
}وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 36].
فهو - عليه السلام - كما كان محسنًا في طاعة ربه، كان لطيفًا محسنًا في تعامله مع الناس، فوصفه أصحاب السجن بأنه من المحسنين، أي من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله، أو من المحسنين إلى أهل السجن، أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرًا على ذلك، فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا مرض منهم رجل قام عليه، وإذا ضاق مكانه أوسع له، وإذا احتاج جمع له، وعن قتادة -رضي الله عنه - كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك.
ويدل على هذا ما قاله إبراهيم وقتادة: كان يعود مرضاهم، ويعزي حزينهم، ورأوا منه محافظة على طاعة الله عز وجل فأحبوه.
والموضع الثالث: جاء في الجزاء والأجر، فقال تعالى:
}وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{ [يوسف: 56].
سبحانه لا يضيع أجر مَن أحسن شيئًا مِن العمل الصالح، ويوسف - عليه السلام - من سادات المحسنين، وفيه إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المرقومة، وأنها أجر له، ولدفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل قيل على سبيل التوكيد.
فيا دعاة التوحيد:
إن كل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه، وجعل عاقبته الخير من جملة ما يجزيه به، فهو سبحانه يجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب، والإرادة والاجتهاد، والرِّيادة فمَنْ أدْخل نَفسَه في زمرة أهل الإحسان جزاه الله تعالى بأَحْسَنِ الجزاء، وأحبه كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فمن أحبَّه الله تعالى نَالَ سَعَادةَ الدَّارَيْنِ.
لقد وُصف يوسف - عليه السلام - قبل النبوة بالإحسان، ووصف في سجنه بالإحسان، ووصف وهو عزيز مصر بالإحسان، وهكذا فإن المعدن الكريم لا يغيره السجن ولا المنصب!