قال تعالى:
}قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ [الأعراف: 188].
فُتن كثير من الناس منذ قوم نوح - عليه السلام - بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء، ومن دون الأنبياء من الصالحين، فجعلوهم شركاء لله تعالى فيما يرجوه عباده من نفع يسوقه إليهم، وما يخشونه من شر يمسهم، فيدعونه ليكشفه عنهم، وصاروا يدعونهم كما يدعونه لذلك إما استقلالًا، وإما إشراكًا؛ إذ منهم من يظن أنه تعالى قد أعطاهم القدرة على التصرف في خلقه بما هو فوق الأسباب التي منحها الله تعالى لسائر الناس، فصاروا يستقلون بالنفع والضر منحًا ومنعًا، وإيجابًا وسلبًا، ومنهم من يعتقد أن التصرف الغيبي الأعلى الذي هو فوق الأسباب الكسبية الممنوحة للبشر خاص بربهم لا يقدر عليه غيره، ولكنهم يظنون مع هذا أن هؤلاء الأنبياء والأولياء عند الله تعالى كوزراء الملوك وحجابهم وبطانتهم، وسطاء بينهم وبين من لم يصل إلى رتبتهم، فالملك المستبد بسلطانه يعطي هذا، ويعفو عن ذنب هذا بوساطة هؤلاء الوزراء والحجاب المقربين عنده، وكذلك رب العالمين - سبحانه عما يقولون علوا عظيما - يعطي ويمنع ويغفر ويرحم وينتقم بوساطة أنبيائه وأوليائه بزعمهم، فهم شفعاء للناس عنده تعالى يقربونهم إليه زلفى كما حكاه التنزيل عن المشركين.
قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا" (مسلم: 2865).
فجاءت هذه الآية وأمثالها لتبين أن رسل الله تعالى وهم صفوة خلقه لا يشاركون الله تعالى في صفة من صفاته، ولا تأثير لأحد منهم في علمه، ولا في مشيئته؛ لأنها كاملة أزلية لا يطرأ عليها تغير، وأن الرسالة التي اختصهم الله تعالى بها لا يدخل في معناها إقدارهم على النفع والضر بسلطان فوق الأسباب المسخرة لسائر البشر، ولا منحهم علم الغيب، وإنما تبليغ وحي الله تعالى وبيانه للناس بالقول والفعل والحكم.
فقوله عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أمر من الله تعالى أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، وأنه لا يأتيه خير إلا من الله، ولا يدفع عنه الشر إلا هو، وليس له من العلم إلا ما علمه الله تعالى، كما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا } [الجن: 26].
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي: لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولعلمت إذا اشتريت شيئًا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه، ولا يصيبني الفقر.
}وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ{ ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه، لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه، ولكني - لعدم علمي - قد ينالني ما ينالني من السوء، وقد يفوتني ما يفوتني من مصالح الدنيا ومنافعها، فهذا أدل دليل على أني لا علم لي بالغيب.
{إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} أنذر العقوبات الدينية والدنيوية والأخروية، وأبين الأعمال المفضية إلى ذلك، وأحذر منها.
{وَبَشِيرٌ} بالثواب العاجل والآجل، ببيان الأعمال الموصلة إليه والترغيب فيها، ولكن ليس كل أحد يقبل هذه البشارة والنذارة، وإنما ينتفع بذلك ويقبله المؤمنون، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97].
وهذه الآيات الكريمات، مبينة جهل من يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه لحصول نفع أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه الله تعالى، وإنما ينفع من قبل ما أرسل به من البشارة والنذارة، وعمل بذلك، فهذا نفعه صلى الله عليه وسلم، الذي فاق نفع الآباء والأمهات، والأخلاء والإخوان بما حث العباد على كل خير، وحذرهم عن كل شر، وبينه لهم غاية البيان والإيضاح.