قال تعالى:
}وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ *فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{ [يوسف: 33 ـ 34].
لما توعدت امرأة العزيز، يوسف - عليه السلام - بالسجن إن لم يستجب لرغباتها }وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ{ عند ذلك استعاذ يوسف - عليه السلام - من شره النسوة وكيدهن.
وقال: }رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ{، أي من ارتكاب الفاحشة، فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد في الآخرة.
فداعية التوحيد أبعد ما يكون عن ارتكاب الكبائر والوقوع في الفواحش، ويعلم علم اليقين أنه لن ينجيه من هذه الفتن إلا ربه - سبحانه وتعالى -.
ثم قال مناجيا الله تعالى:
}وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ{ فهي دعوة الإنسان العارف ببشريته الذي لا يغتر بعصمته فيريد مزيدًا من عناية اللّه وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
أي: إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرًا ولا نفعًا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
وهذا فزع منه - عليه السلام - إلى ألطاف الله تعالى جريًا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله - عز وجل -، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة.
}فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{، فعطف استجابة ربه له، وصرف كيدهن عنه بالفاء الدالة على التعقيب، وتعليلها بأنها مقتضى كمال صفتي السمع والعلم، دليل على أن ربه - عز وجل - لم يتخل عن عنايته بتربيته، أقصر زمن يهتم فيه بأمر نفسه ومجاهدته.
فيوسف - عليه السلام - نطق من عين التوحيد إذ علم أن نجاته في أن يصرف - سبحانه - البلاء عنه، ولذلك عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفًا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تعالى في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمامٌ عدلٌ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابَّا في اللهِ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليهِ، ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنْفِقْ يمينُهُ، ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناهُ" (أخرجه البخاري: 1423 واللفظ له، ومسلم: 1031).
وهكذا داعية التوحيد يلتجأ إلى الله - تعالى - ويقدَّم محبته على ما سواها وإن كان يلحقه الضرر في ذلك، فهو أهون عنده من عذاب الآخرة، ومرضاة الله فوق كل الرغبات والشهوات مهما عظمت وتهيأت لها الأسباب المواتية.