عن عائشة أم المؤمنين أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعَث رجلًا على سَرِيَّةٍ، وكان يَقرأُ لأصحابِه في صلاتِه فيَختِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فلمَّا رجَعوا ذكَروا ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "سَلوهُ لِأَيِّ شيءٍ يَصنَعُ ذلك". فسَألوه فقال: لأنها صِفَةُ الرحمنِ، وأنا أُحِبُّ أن أقرَأَ بها، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أخبِروه أنَّ اللهَ يُحِبُّه".
(متفق عليه: البخاري: 7375، ومسلم: 813)
إذا أراد المسلم أن يكلم اللَّه لجأ إلى الصلاة، فإنها مناجاة للَّه تعالى، وإذا أراد أن يكلمه الله لجأ إلى القرآن، فالقرآن كلام اللَّه، فمن قرأ القرآن في الصلاة ناجى اللَّه وناجاه اللَّه، فكانت تلك خير عبادة.
ولهذا قارن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين آية واحدة يقرؤها المسلم في صلاة وبين ناقة عظيمة اللحم والشحم عشراء، ففضل آية القرآن، وفضل آيتين على ناقتين، وثلاث آيات على ثلاث من النوق، وما زاد من الآيات مفضل على عددهن من النوق، فما أيسر طريق الحسنات لمن يعلم ويوفقه اللَّه!
وفي القرآن سور تفضل اللَّه - عز وجل - بزيادة الأجر لقارئها، وحث عليها، لما فيها من عظات وآلاء وتمجيد وتحميد، فالبقرة وآل عمران لهما من أنوار التنزيل ما استحقا به أن يسميا بالزهراوين أي الكوكبين النيرين، يأتيان يوم القيامة كالظلة لقارئهما من حر الموقف، وتدافعان عنه وتشفعان له يوم القيامة.
وفي آخر البقرة آيتان فيهما اعتراف وإيمان وثناء ودعاء، من قرأهما أجيب دعاؤه، ومن بات عليهما بات محصنًا لا يقربه شر الشيطان.
وفضل قراءة الفاتحة وآية الكرسي وسورة الكهف والمعوذتين كبير... وهكذا يفتح اللَّه - عز وجل - أبواب تحصيل الحسنات الكثيرة بقراءات قليلة من القرآن {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].
أما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فهي تعدل ثلث القرآن أجرًا وثوابًا، وقد حمله بعض العلماء على ظاهره فقال: إنها ثلث باعتبار معاني القرآن، لأنه أحكام وأخبار وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار.
ويؤيد هذا المفهوم رواية: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءًا من أجزاء القرآن".
وقال القرطبي: اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور، وهما الأحد الصمد، لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال، لأنه الذي انتهى إليه سؤدده، فكان مرجع الطلب منه وإليه، ولا يتم ذلك على وجه التحقيق، إلا لمن حاز جميع خصال الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى، فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة، كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات، وصفات الفعل ثلثًا. اهـ
وقال غيره: تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته لله تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرك، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال، الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقادي، لذلك عادلت ثلث القرآن.
وفي الحديث فائدة جليلة، وهي أن قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تثمر محبة الله تعالى، والمحبة بمعنى ميل النفس إلى المحبوب لا تسند إلى الله تعالى، فالمراد لازمها وهو الإنعام والإحسان إلى العبد.
قال ابن دقيق العيد:
يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده.