آفة جسيمة ومنكر عظيم، ينتقص من توحيد المسلم ربَّه جل وعلا، ويجرح إيمانه، ويجعل عبادته على شفا جرف هار، وهو يحسب أنه يحسن صنعا!
بلغ من خطره وإفساده أن حذّر منه رسول الهدى (بأبي هو وأمي) صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته، كما في البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نُزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً".
وعلى الرغم من شدة هذا النكير والوعيد على اتخاذ القبور مساجد، المقترن باللعن لمن يفعله، نجد الاستهانة بهذا الأمر من بعض أبناء الأمة في صور عديدة، فمن الناس من يتصور قلة وقوع ذلك في زماننا أو ندرته! ومنهم من يحاجج عن الواقعين فيه بأن مقصدهم الخير والحرص عليه! وآخرون يرون أن الانشغال بذلك ليس من أولويات الدين والدعوة!
فيالله العجب من هذه المغالطات العجيبة في أمر بلغ من عناية الإسلام به أن خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ينشغل به في مرض موته ولحظاته الأخيرة في هذه الدنيا! وفي هذا وحده الكفاية في الرد على من يتحدث عن أولويته الدين والدعوة؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الرؤوف الرحيم بأمته، وهو يغادر الدنيا، وبعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، يحذر أمته من هذا الباب الوخيم من أبواب الشرك بالله تعالى، والمسلمون في أفضل قرونهم وأقرب ما يكونون من منهاج النبوة والتوحيد الخالص، فكيف بمن بعدهم؟!
ثم العجب الآخر ممن يرى قلة وقوع ذلك في زماننا.. والحشود مازالت تتتابع وتتكالب على الأضرحة والقبور والمشاهد الشركية المشيدة في بقاع شتى من ديار المسلمين، يدعون أصحابها من دون الله تعالى، ويقربون إليهم القرابين ويسألونهم حوائجهم.. إلى غيرها من المنكرات الشنيعة!
وقد أحصى كثير من الباحثين ما لا يكاد يصدق كثرة وانتشارا من هذه المشاهد الشركية، فمنها الأضرحة المكذوبة في مصر، مثل الحسين، السيدة زينب، السيدة عائشة، السيدة سكينة، السيدة نفيسة، الإمام الشافعي، السيد البدوي، أبي العباس المرسي.. وغيرها كثير. ومنها في الشام، بل في دمشق وحدها، 194ضريحا ومزارا، 44 منها مشهورة، وفي الهند حوالي 150 ضريحا مشهورا، ومثل ذلك تقريبا في بغداد وحدها بالعراق؛ بخلاف أكثر من 70 ضريحا في الموصل! فهل يدري بهذا التفشي لهذه المشاهد في ديار المسلمين من يناقش أولوية التحذير منها؟!
أما الجدال عن الواقعين في هذه الانحرافات بأن مقصدهم الخير والحرص عليه؛ فهو جدال كبيت العنكبوت.. أو أوهن منه! وما أبلغ قول ابن مسعود رضي الله عنه - حين شاهد نفرا من المسلمين يتحلقون بالمسجد يذكرون الله تعالى جماعة.. فقال الصحابي الجليل: "كم من مريد للخير لم يصبه" (رواه الدارمي في سننه)! وذلك أن إرادة الخير وحدها لا تقوم بها قائمة للعمل الصالح في الإسلام حتى يكون صوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وقد حذر من الإحداث في الدين، وردّ على المحدِث عمله، بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"؟! (رواه الشيخان).
فلله در دعاة أدركوا استفحال هذا الخطر في جسد الأمة فنهضوا وشمّروا للتحذير منه واستنقاذ من شاء الله من المسلمين الذي ضلت بهم السُّبل في أودية الشرك والخرافة. ومن ذلك مؤلف نفيس للشيخ صالح بن مقبل العصيمي، قدّم له الشيخ العلامة د.عبدالرحمن المحمود، يعد مرجعا واسعا في هذا الباب، ومرشدا للدعاة تجاه هذه المنكرات، بعنوان "بدع القبور.. أنواعها وأحكامها"، فجزاه ودعاة الحق والهدى خير الجزاء، وأعانهم على هذا الجهاد الكريم.