كان وعد اللّه لنوح - عليه السلام -:}يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ{ [هود: 48]، فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد اللّه، وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد.
لقد ولدت أجيالًا مسلمة وعاشت بالإسلام حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم مرة أخرى، وانحرفت بهم إلى الجاهلية السوداء، لذا أرسل الله - عز وجل - نبيه هود - عليه السلام - إلى قومه عاد،هاديًا ومبلغًا دعوة التوحيد التي سبقه بها نوح ورسل كرام.
وقد اتخذ هود - عليه السلام - في سبيل دعوتهم وهدايتهم طرق متعددة ووسائل شتى، مؤملًا أن يستجيب له قومه، ولكنهم - كمن سبقهم - أبوا ونفروا من دعوة التوحيد، إلا القليل الذي كانت لهم قلوب يعقلون بها قادتهم إلى السير في ركب الدعوة المباركة.
ولعل أول معلم من معالم التوحيد في دعوته لقومه ما أخبرنا به القرآن الكريم في قول الله تعالى: }وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ{ [الأعراف: 65].
ومثلها في قول الله تعالى: }وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ{ [هود: 50].
هود - عليه السلام - كان من أشرف قومه نسبًا؛ لأن الرسل إنما يبعثهم الله - سبحانه وتعالى - من أفضل القبائل وأشرفهم، وإنما جعل }أَخَاهُمْ{، أي منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه، فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
وابتدأ بلفظة }يَا قَوْمِ{ على سبيل الترحم عليهم والتلطف في العبارة استجلابًا لهم، ولكن كان قومه من أشد الأمم تكذيبًا للحق ولهذا دعاهم هود - عليه السلام - إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقال:}اعْبُدُوا اللَّهَ{ وإلى طاعته وتقواه ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده.
وهي القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول، وكانوا قد انحرفوا عن عبادة اللّه الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة، ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح - عليه السلام -!
ثم تطور هذا التعظيم جيلًا بعد جيل فإذا أرواحهم تتمثل في أشجار وأحجار، ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة!
ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير اللّه وحده ولا يدين بالعبودية إلا للّه وحده ..الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا اللّه.
لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون للّه وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول }مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهو استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل للأمر بها، كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئًا إذ ليس لكم من إله سواه وغيره.
}إِنْ أَنْتُمْ} ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء له أو بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها {إِلَّا مُفْتَرُونَ} عليه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
لقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح - عليه السلام -، فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حل بمن ساروا في هذا الطريق، لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله: }أَفَلا تَتَّقُونَ{ استنكارًا لقلة خوفهم من اللّه ومن ذلك المصير المرهوب.
أفلا تتقون عبادة غير اللَّه..
أفلا تتقون اللَّه في عبادتكم غيره، وفي تكذيبكم هودًا - عليه السلام -..
أفلا تتقون عذاب اللَّه ونقمته عليكم بمخالفتكم إياه.