لما أرشد هود - عليه السلام - قومه إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان بادر ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة محضة، فليس له من ورائها هدف، وما يطلب على النصح والهداية أجرا، إنما أجره على اللّه - عز وجل - الذي خلقه فهو به كفيل.
وهو عين ما ذكره نوح - عليه السلام -، ولم يأت نبي من الأنبياء - عليهم السلام - إلّا وأخبر أنه ليس له أن يطلب أجرا إلّا من الله لا من غير الله.
قال تعالى:
}يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ{ [هود: 51].
يقول تعالى ذكره مخبرًا عما قاله هود - عليه السلام - لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا.
أي: غرامة من أموالكم، على ما دعوتكم إليه، فتقولوا: هذا يريد أن يأخذ أموالنا، وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانًا.
وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره إزاحة لما عسى يتوهمونه وإمحاضًا للنصيحة.
والمعنى: أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة، للتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا، وطلبت منكم الأجر والثواب.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي{ يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله - عز وجل -، إلا على الذي خلقني.
والمعنى: ما أجري وجزائي إلا من عند الله - عز وجل -، ثم وصفه بقوله الَّذِي فَطَرَنِي فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه، منبها على أفعال الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة.
ولعل فيه إشارة إلى أنه - عليه السلام - غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن، وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات.
}أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن اللَّه واحد وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه.
}أَفَلا تَعْقِلُونَ} للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولًا من عند اللّه يطلب رزقا من البشر، واللّه الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوّت هؤلاء الفقراء!
}أَفَلا تَعْقِلُونَ} من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة.
}أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء.
}أَفَلا تَعْقِلُونَ} أنها آيات وحجج، وأن ما أدعوكم إليه، موجب لقبوله، منتف المانع عن رده.
أي: أتغفلون عن هذه القضية فلا تعقلونها أو أتجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلًا فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.
وما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول؛ لأن شأنهم الرشد والنصح، وأن مما يمحضها للقبول هو حسم الطمع، كما أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع، قوي تأثيرها في القلب، وإذا كان الناصح يجنح إلى المادة أو يتوهم منه طلبها من المنصوح له لا ينجح بدعوته ولا تنفع هدايته.