كان قوم عاد كغيرهم في تكذيب الرسل والاستهزاء بهم والصد عن سبيل الله تعالى، فقد قابلوا دعوة نبي الله هود - عليه السلام - بالتعنت ورفض الانصياع لدعوة التوحيد، فما كان من النبي الكريم هود - عليه السلام - إلا البراءة من شركهم وكفرهم، مثل من سلفه من أنبياء الله تعالى.
قال تعالى:
}قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ{ [هود: 53 - 55]
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} وقد كذبوا في ذلك، فإنه ما جاء نبي لقومه، إلا وبعث الله على يديه، من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، ولو لم يكن له آية، إلا دعوته إياهم لإخلاص الدين لله، وحده لا شريك له، والأمر بكل عمل صالح، وخلق جميل، والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بالله، والفواحش، والظلم، وأنواع المنكرات، مع ما هو مشتمل عليه هود - عليه السلام - من الصفات، التي لا تكون إلا لخيار الخلق وأصدقهم، لكفى بها آيات وأدلة، على صدقه.
بل أهل العقول، وأولو الألباب، يرون أن هذه الآية، أكبر من مجرد الخوارق، التي يراها بعض الناس، هي المعجزات فقط.
وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي: لا نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك، الذي ما أقمت عليه بينة بزعمهم، {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وهذا تأييس منهم لنبيهم، هود - عليه السلام - في إيمانهم، وأنهم لا يزالون في كفرهم يعمهون.
{إِنْ نَقُولُ} فيك {إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي: أصابتك بخبال وجنون، فصرت تهذي بما لا يعقل! فسبحان من طبع على قلوب الظالمين، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق، بهذه المرتبة، التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لولا أن الله حكاها عنهم.
ولهذا بين هود - عليه السلام - أنه واثق غاية الوثوق، أنه لا يصيبه منهم، ولا من آلهتهم أذى، فقال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ{،إني أشهد اللّه على براءتي مما تشركون من دونه، واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون اللّه.
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق اللّه طريقًا، وانتفاضة المفاصلة بين فريقين لا يلتقيان على وشيجة وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
وهو يشهد اللّه ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم.
ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم! وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه، ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!
ومن قبله قالها نبي الله إبراهيم - عليه السلام - }إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (*) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ{[الزخرف: 26]، وهو معلم بارز وواضح الدلالة في دعوة الأنبياء جميعهم.
}مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أي اطلبوا لي الضرر كلكم بكل طريق تتمكنون بها مني {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي لا تمهلوني.
وهذا من أعظم المعجزات فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان رجلًا مفردًا بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورًا بينًا، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع واعتصم بحبل متين، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد!
ولكن الدهشة تزول عند ما يتدبر العوامل والأسباب، إنه الإيمان والثقة والاطمئنان، الإيمان باللّه، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره، الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد اللّه بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة.