جادل قوم عاد نبي الله هود - عليه السلام -، فكان الرد عليهم مفحمًا مبطلًا ذلك الجدل السقيم، قال تعالى:
}قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(*)قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ{ [الأعراف: 70 - 71]
فـ {قَالُوا} متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ومعنى المجيء إما مجيئه - عليه السلام - من متعبده ومنزله، وإما من السماء على التهكم، فجعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام، على ما دعت إليه الرسل من توحيد الله وحده لا شريك له، وكذبوا نبيهم.
وهو مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول .. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير، ويدعه عبدًا للعادة والتقليد، وعبدًا للعرف والمألوف، وعبدًا لما تفرضه عليه أهواؤه، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور الرباني.
وهكذا استعجل القوم العذاب فرارًا من مواجهة الحق، بل فرارًا من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد وقالوا لنبيهم الناصح الأمين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.
فقَالَ لهم هود - عليه السلام -:{قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}، والرجس العذاب من الارتجاس الذي هو الاضطراب والغضب إرادة الانتقام للتفخيم والتهويل. أي: لابد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي: كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها، وعلى أصنام سميتموها آلهة، وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة و{مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فإنها لو كانت صحيحة لأنزل الله بها سلطانًا، فعدم إنزاله له دليل على بطلانها.
فهود - عليه السلام - أنكر عليهم الجدل في أشياء سموها آلهة ليست هي إلا محض الأسماء من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما؛ لأن لمستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكل، وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة، وكلاهما مستحيل.
فبين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهارًا لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم.
والتعبير المتكرر في القرآن: }ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ{، هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة، إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله اللّه، خفيف الوزن، قليل الأثر، سريع الزوال، وإن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف، فإذا جاءت الكلمة من اللّه - عز وجل - ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق، بما فيها من سلطان اللّه - تعالى - الذي يودعها إياه.
{فَانْتَظِرُوا} ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} وفرق بين الانتظارين، انتظار من يخشى وقوع العقاب، ومن يرجو من الله النصر والثواب.
وهذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى التوحيد..إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال، كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان اللّه تعالى.