قال تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40]
يقول تعالى ذكره للمشركين به: }اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ{ أي المختص بالخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء؛ وقد عرّفهم هنا قبح فعلهم، وخبث صنيعهم، فالله - سبحانه وتعالى - الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا ينبغي أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم وخوّلكم، ولم تكونوا تملكون قبل ذلك، ثم هو يميتكم من بعد أن خلقكم أحياء، ثم يحييكم من بعد مماتكم لبعث القيامة.
فهو - سبحانه وتعالى - وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم، وأنه ليس أحد من الشركاء التي يدعوهم المشركون من يشارك الله في شيء من هذه الأشياء.
ثم قال على جهة الاستفهام: }هَلْ مِن شُرَكَائِكُم{ أي أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة ويجعلون لهم نصيبًا من أموالهم.
}مِّن شَيْءٍ يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم{؟ أي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء }مِّن شَيْءٍ{ أي شيئًا من هذه الأفعال؟ ومعلوم أنهم يقولون: ليس فيهم من يفعل شيئًا من ذلك، فتقوم عليهم الحجة.
وهذا من الله تقريع لهؤلاء المشركين، ومعنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئًا من ذلك، فكيف يعبد من دون الله من لا يفعل شيئا من ذلك؟! وكيف يشركون بمن انفرد بهذه الأمور من ليس له تصرف فيها بوجه من الوجوه؟!
قال ابن القيم - رحمه الله -: "أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئاً ثُمَّ رَزَقَكُمْ يعني: أطعمكم ما عشتم في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث بعد الموت، لينْبّئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: يفعل كفعله".
والشرك على أقسام: أعظمها اعتقاد شريك لله في الذات، ويليه اعتقاد شريك لله في الفعل، كقول من يقول: العباد خالقون أفعالهم الاختيارية، ويليه الشرك في العبادة، وهو الرياء، وهذا هو المراد بحديث: "من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري .. تركته وشركَه" بفتح الكاف؛ أي: مع شريكه، والضمير في "تركته" لمن، يعني أن المرائي في طاعته آثم، لا ثواب له فيها.
وبعدما أثبت له تعالى لوازم الألوهية وخواصها ونفاها رأسًا عما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنام وغيرها مؤكدًا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق استنتج منه تنزهه عن الشركاء بقوله تعالى:
}سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{ أي نزهوه تنزيهًا، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك.
فلفظة }سُبْحَانَ{ تنزيه عن جميع العيوب، }وَتَعَالَى{: هو وصف وتبرئة عن أن يغلبه شيء أو يقهره؛ هو من العلو، متعال عن أن يغلبه شيء أو يقهره.
فقد برأ نفسه - تعالى ذكره - عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه بزعمهم أن آلهتهم له شركاء.
وجمع الله - عز وجل - في هذه الآية بين الحشر والتوحيد، أما الحشر فقوله: }يُحْيِيكُمْ{، وأما الدليل فقدرته على الخلْق ابتداءً وأما التوحيد، فقوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ}.