logo

قِراءَةٌ جديدة في بُردة البُوصِيري وشِعْرِه (3من3)

قِراءَةٌ جديدة في بُردة البُوصِيري وشِعْرِه (3من3)

  • علوي بن عبدالله الثقاف
  • 2023/11/16
  • 0 تعليق
  • 49 قراءة

هذا، وفي البُردةِ أخطاءٌ أخرى نمرُّ عليها مرورًا سريعًا حتى لا يظنَّ ظانٌّ أنَّها مقصورةٌ على بَيتينِ أو ثلاثة، فمِن ذلك قوله:

أَقْسَمتُ بالقَمرِ المنشقِّ إنَّ له   مِن قَلبِه نِسبةً مَبرُورَةَ القَسمِ

وهذا قَسَم بغيرِ الله تعالى لا يجوزُ.

وقوله:

دَع مــا ادَّعَتهُ النَّصارَى في نَبِيِّهِـمِ    واحكُمْ بما شِئتَ مَدحًا فيه واحتَكِـمِ

وكأنَّ الناظمَ يقول: امدَحْه- يَعني: نَبيَّنا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم- بما شِئتَ من المدحِ، لكن لا يصل بك المدحُ إلى تأليهه كما فعلتِ النَّصارى مع عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا باطلٌ، وليس معنى حديث: ((لا تُطْرُوني كما أَطرتِ النصارى عيسى ابنَ مريم))، أي: أَطروني، لكن لا يَصِل إطراؤكم إلى ما وصَلَ إليه النصارى مِن أنَّه ابنُ الله، وثالثُ ثلاثة!

وهذا خَطأٌ، والمعنى الصَّحيح للحَديث: لا تُبالغوا في إطرائي كما بالَغَ النَّصارى في إطراءِ نبيِّهم حتى أدَّاهم ذلك إلى تأليهه.

ومن ذلك قولُه:

فَإِنَّ لي ذِمَّةً منــه بتَسـمِيَتِي    مُحمَّدًا وَهْوَ أَوفَى الخَلقِ بــالذِّمَمِ

وهذا غيرُ صحيح، فليس كلُّ مَن تَسمَّى بمحمَّدٍ صارتْ له ذِمَّةٌ بهذه التسمية؛ فما أكثرَ مَن تَسمَّى بمحمد وهو في عِداد الفسقة! ولكن للأسف تجِد كثيرًا منهم يُردِّدونَ هذا البيت وغيرَه وهم يَظنُّون صِحَّةَ معناه.

وقوله أيضًا:

لا طِيبَ يَعــدِلُ تُرْبًا ضَمَّ أَعظُمَهُ    طُوبى لـمُنتَشِـقٍ منـــه ومُـلتَثِـمِ

الانتشاق: الشم، والالتثام: التعفُّر أو التَّقبيل، والنَّاظم يَدْعو لأنْ نَنتشقَ ونلتثمَ تُرابَ قبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا من الغلوِّ أيضًا.

والحاصِل:

أنَّ البُوصيريَّ كان من غُلاة الصُّوفيَّة الشاذليَّة، ولا يَنفع الذين دافَعوا عنه الْتماسُهم العُذرَ له في بعضِ الأبيات أو توجيهها وجهةً حَسنةً، فهذا إنَّما يُقال لِمَن كان سليمَ المعتقَدِ، سليمَ المنهجِ والطريقةِ، ثم تزِلُّ قَدمُه في مسألةٍ أو مسألتين، فهذا يُلتمس له العذرُ فيها، أمَّا مَن كانتْ هذه طريقتَه، وهذا مُعتقدَه، وهذا دَيدنَه، فمهما الْتمَسْنا له العذرَ في بيتٍ أو بيتين، فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شُرَّاح هذه القصائدِ الذين يُؤكِّدون هذه المعاني، ويَتتابعون عليها في شَرْح قصائدِه؟!

وهذا كلُّه لا يَمنعنا أن نُشيدَ بقُوَّةِ شِعْره وجزالتِه، سواء كان من شِعر مديحِ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أو ما فيه مِن حِكَمٍ ودُرَرٍ؛ فمِن مليحِ المديحِ: قولُه في البُردة:

أَكــرِمْ بخَلْـقِ نَبيٍّ زانَــهُ خُلُـقٌ      بالحُسـنِ مُشـتَمِلٌ بالبِشْـرِ مُتَّسِـمِ

كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبـَدرِ في شَـرَفٍ    والبَحرِ في كَــرَمٍ والـدَّهرِ في هِمَمِ

وقوله واصفًا الصَّحابة رضي الله عنهم:

هُمُ الجِبـالُ فَسَـلْ عَنهُم مُصَادِمَهُم    مَــاذا لَقِي مِنهمُ في كُـلِّ مُصطَدَمِ

وَسَـلْ حُنَيْنًا وَسَـلْ بَدْرًا وَسَلْ أُحُدَا    فُصـولُ حَتْفٍ لَهم أَدْهى مِنَ الوَخَمِ

كــأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبًى    مِن شِـدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَـدَّةِ الحُزُمِ

وفيها من الحِكَم الكثير، كمِثل قوله:

والنَّفسُ كالطِّفلِ إنْ تُهمِلْه شَبَّ على     حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْه يَنفَطمِ

فاصرفْ هواها وحاذِرْ أن تُولِّيَه      إنَّ الهوى ما تَولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ(42)

وراعِها وهْي في الأَعمالِ سائِمةٌ     وإنْ هي اسْتَحْلَتِ المَرعى فلا تَسِمِ

كم حسَّنَتْ لَذَّةً للمَرءِ قاتلةً      من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

قد تُنكِرُ العَينُ ضوءَ الشَّمسِ مِن رمَدٍ    ويُنكرُ الفمُّ طَعْمَ الماءِ مِن سَقَمِ

وخَالِفِ النَّفسَ والشَّيطانَ واعصِهِما      وإنْ هُمَا مَحَّضاك النُّصْحَ فاتَّهِـمِ

واسْتَفْرِغ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قد امْتَلأتْ    مِنَ الـمَحـارِمِ وَالْـزَمْ حِمْيَةَ الـنَّدَمِ

ولا تُطِعْ منهما خَصْمًا ولا حَكَمـًا      فأَنتَ تَعرِفُ كَيدَ الخَصمِ والحَكَمِ

ومِن بديعِ شِعره:

ذَهبَ الشَّبابُ وسوفَ أذهبُ مِثلَما      ذهَبَ الشبابُ وما امرؤٌ بمخلَّدِ

إنَّ الفناء َ لكُلِّ  حيٍّ  غايةٌ        مَحتومةٌ إنْ لم يكُن فكَأنْ قَدِ(43)

هذا، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يَهدي ضالَّ المؤمنين، وأن يَردَّه إلى الحقِّ ردًّا جميلًا.

وصلَّى الله وسلَّم على حَبيبِنا وسيِّدنا ونبيِّنا مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِه، وعلى آلِه وصَحْبِه أجمعين.

============================

 (42) يُصْمِ: يَقْتُل، مِن أَصْمَى الصَّيدَ إذا رماه فقتَلَه وهو يراه.

أو يَصِمِ: يُعيب من الوَصْم، وهو العيبُ والعار. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2052) (6/ 2404).

(43) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 103).

تعليقات

{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}

{{comment.Description}}

إضافة تعليق

;