logo

قِراءَةٌ جديدة في بُردة البُوصِيري وشِعْرِه (2من3)

قِراءَةٌ جديدة في بُردة البُوصِيري وشِعْرِه (2من3)

  • علوي بن عبدالله الثقاف
  • 2023/11/16
  • 0 تعليق
  • 52 قراءة

وقد اشتَهَر البُوصيريُّ بشِعرِه في المدائحِ النبويَّة، وهو مِن أرْقَى الشِّعر وأجودِه لولا غُلوٌّ فيه، ومَن قرأ قصائدَه مثل: البُردة الميميَّة، والقصيدة الهمزيَّة، وبقيَّة قصائده في دِيوانه- ظهَر له اطِّرادُ الرَّجُل في غلوِّه، وأبياتُه المُجمَلة المحتمِلة لأكثرَ من معنًى في قصيدةٍ، تُفسِّرها أبياتٌ أخرى في قصيدةٍ أُخرى؛ فلا مجالَ لتبرئتِه منه، وهاكم بعضَ الأمثلة:

قولُه في البُردة:

فَإنَّ مِن جُودِك الدُّنيا وضَرَّتَها   ومِن عُلومِك عِلمَ اللَّوحِ والقَلمِ(33)

يُؤيِّده البيتُ الخامِسُ من الهمزيَّة:

لَك ذاتُ العُلومِ مِن عالِم الغيـــ      ـــبِ ومنها لآدَمَ الأسماءُ

لذلك قال الهيتميُّ في شرح هذا البيت:

(إنَّ آدَمَ لم يَحصُل له من العلومِ إلَّا مجرَّدُ العِلم من أسمائها، وأنَّ الحاصل لنبيِّنا هو العلمُ بحقائقها، ومُسمَّياتها، ولا ريبَ أنَّ العلمَ بهذا أعْلى وأجلُّ، من العِلم بمُجرَّد أسمائها؛ لأنَّها إنما يُؤتَى بها لتبيين المسميَّات؛ فهي المقصودةُ بالذات، وتِلك بالوسيلة، وشتَّان ما بينهما، ونظير ذلك أنَّ المقصود مِن خَلْقِ آدمَ إنما هو خلقُ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ من صُلبه، فهو المقصودُ بطريق الذَّات، وآدَم بطريقِ الوسيلة، ومِن ثَمَّ قال بعضُ المحقِّقين: إنما سجَدَ الملائكةُ لأجْلِ نُورِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ الذي في جَبينه) (34)!

نعوذ بالله من الضلال.

 

والبُوصيريُّ كغيره من غُلاة الصوفيَّة الذين يَعتقدون أنَّ الدنيا بمَن فيها لم تُخْلَقْ إلَّا من أجلِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ونورِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا ذَكَرَه في البُردة وغيرها؛ قال في البُردة:

وكَيفَ تَدْعو إلى الدُّنيا ضَرورةُ منْ     لولاه لم تَخرُجِ الدُّنيا من العَدمِ

وقال:

وكلُّ آيٍ أَتَى الرُّسْلُ الكِرامُ بها     فإنَّما اتَّصلتْ مِن نُورِه بِهِمِ

وقال:

فاقَ النَّبيِّينِ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ    ولم يُدانوه في عِلمٍ ولا كَرمِ

وكُلُّهم مِن رَسولِ اللهِ مُلتمِسٌ    غَرفًا مِنَ البَحرِ أَوْ رَشفًا مِن الدِّيَمِ

وقال في الهمزيَّة مؤكدًا هذا المعنى:

كلُّ فَضلٍ في العالَمِين فَمِنْ    فَضلِ النَّبِي استعارَه الفُضلاء

قال الهيتميُّ في شرح البُردة: (فإنَّما اتَّصلتْ مِن نُورِه بِهم، أي: وصلتْ منه إليهم بطريق الاستمدادِ؛ وذلك لأنَّ نورَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان مخلوقًا قبلَ آدَمَ صلوات الله وسلامُه عليه، بل قبل سائرِ المخلوقات من السَّموات وما فيها والأرض وما عليها وغير ذلك)(35)، وهذا مِن خُرافات الصوفيَّة وخُزعبلاتهم؛ فالنبيُّ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ وَلَدُ آدَمَ، وخُلق بعدَ آدَمَ؛ فكيفَ يكونُ نورُه خُلِق قَبلَه؟! عليه صلواتُ ربِّي وسلامُه.

وقال في شرح الهمزيَّة: (لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ الممدُّ لهم؛ إذ هو الوارثُ للحضرةِ الإلهيَّة، والمستمدُّ منها بلا واسطةٍ دون غَيرِه؛ فإنه لا يستمدُّ منها إلَّا بواسطتِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فلا يصلُ لكامِل شيءٍ إلَّا وهو مِن بعض مددِه وعلى يديه، فآياتُ كلِّ نبيٍّ إنما هي مُقتبسَةٌ من نوره؛ لأنَّه كالشمس، وهم كالكواكب، فهي غيرُ مضيئةٍ بذاتها وإنَّما هي مُستمدَّة من نورِ الشمس، فإذا غابتْ أظهرتْ أنوارَها، فهم قبل وجودِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ إنما كانوا يُظهِرون فضلَه، وأنوارُهم مُستمَدَّة من نورِه الفائض، ومَددِه الواسع)(36)، وهذا كلامٌ لا دليلَ عليه لا مِن النَّقل ولا العقل، ولا زِمامَ له ولا خِطام!

وفي البُردة استجارة واستغاثة بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ وذلك عند قوله:

مَا ساَمَني الدهرُ ضَيمًا واستجرتُ به     إلَّا ونِلتُ جوارًا منه لم يُضَم

ولا الْتمستُ غِنَى الدَّارينِ مِن يَدِه     إلَّا التمستُ النَّدى مِن خَيرِ مُسْتَلمِ

ومعنى ذلك: ما ظَلمَني أهلُ الدَّهر في وقتٍ من الأوقاتِ وطلبتُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يُدخِلَني في جوارِه؛ ليحميني مِن ضَيمِ الدَّهر إلا وقرَّبني منه(37).

والاستغاثةُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كثيرةٌ في شِعر البُوصيري- وهي أشنعُ مِن التوسُّل، وإنْ خلَط بينهما بعضُ الناس؛ جَهلًا أو تلبيسًا.

ولم تقتصرْ أبياتُ الغلوِّ في شِعر البُوصيريِّ على البُردة فقط، بل في غيرها ما هو أكثرُ غلوًّا، ومِن ذلك قوله:

يا نَبيَّ الهُدى استغاثةُ مَلْهُو     فٍ أَضرَّتْ بحالِه الحَوباءُ

يَدَّعي الحبَّ وهو يأمُر بالسو     ءِ ومَن لي أن تَصْدُقَ الرغباءُ

إلى أن قال:

 

هَذِه عِلَّتي وأنتَ طبيبي     ليس يَخفَى عليك في القلبِ داءُ

ومِن الفوزِ أن أَبُثَّكَ شَكوى     هي شَكوى إليك وهي اقتِضاءُ(38)

وأشدُّ مِن ذلك دُعاؤه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يَصفحَ عنه، وأن يَقبلَ عُذرَه بقوله:

يا مَن خَزائنُ جُودهِ مملوءةٌ    كَرمًا وبابُ عطائِه مفتوحُ

نَدْعوك عن فَقرٍ إليك وحاجةٍ    ومَجالُ فضلِك للعُفَاةِ فسيحُ

فاصفحْ عن العبدِ المسيءِ تَكرُّمًا    إنَّ الكريمَ عن المسيءِ صَفوحُ

واقبلْ رَسولَ الله عُذرَ مقصِّرٍ    هو إنْ قَبِلتَ بمدحِكَ الممدوحُ

في كلِّ وادٍ من صِفاتِك هائمٌ   وبكُلِّ سرٍّ مِن نداك سَبوحُ(39)

ومن ذلك: غُلوُّه في الشَّريفةِ نَفيسةَ بنتِ الحَسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهم، بقوله:

سَليلةُ خَيرِ العالَمِين \"نَفيسةٌ\"   سمَتْ بِكِ أَعراقٌ وطابتْ مَحاتِدُ(40)

إذا جَحدتْ شَمسُ النهارِ ضِياءَها   ففضلُكِ لم يَجحَدْه في الناسِ جاحدُ

بآبائِك الأطهارِ زُيِّنتِ العُلا   فحَبَّاتُ عِقد المجدِ مِنهم فَرائدُ

ورثتِ صفاتِ المصطفى وعُلومَه   فَفَضلُكما لولَا النُّبوَّةُ واحدُ!(41)

============================

(33) هناك من أمور الغيبِ ما أَطْلعه الله على مَن ارتضاهم مِن رُسله، ومنهم نبيُّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، لكن البُوصيري يزعم أنَّ ما في اللوح المحفوظِ بعضٌ ممَّا عندَه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقوله: (ومِن عُلومك) مِن هنا: للتبعيض؛ ولذلك يقول الهيتميُّ شارحًا هذا البيت: (ووجه كون عِلم اللَّوحِ المحفوظ من بَعضِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ الله أَطْلعه ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللَّوح المحفوظ، وزاده عُلومًا أُخر كالأسرارِ المتعلِّقة بذاته سبحانه وتعالى وصِفاته)) انظر: ((العمدة شرح البردة)) (ص: 699).

ولَمَّا حارَ بعضُهم وأراد أن يخرُجَ من هذا المأزق أتَى بما يُضحك، فقال: (قال الشُّراح: المرادُ باللَّوح ما يَكتُب الناس عليه، وبالقَلَم: ما يَكتُبون به، فكأنَّه قال: ومِن عُلومك عِلْم الناس الذي يَكتُبونه بأقلامِهم في ألواحِهم). انظر: ((نحت حديد الباطل وبرده)) لداود النقشبندي (ص: 39)، ((البلسم المريح من شِفاء القلب الجريح)) لعمر كامل (ص: 14).

(34) انظر: ( المنح المكية شرح الهمزية للهيتمي) (1/146).

(35) انظر: ((العمدة شرح البردة)) للهيتمي (ص: 289).

(36) انظر: ((المنح المكيَّة شرح الهمزيَّة)) (2/652).

(37) انظر: ((العمدة شرح البردة)) (ص: 411-413).

(38) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 60).

(39) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 90)

(40) محاتد: جمع مَحْتِد، وهو: الأَصْل والطبعُ؛ يُقال: إِنَّه لكريم المحتِدِ، ورجعَ إلى مَحتدِه. ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 139)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 154).

(41) انظر: ((ديوان البوصيري)) (ص: 92). 


تعليقات

{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}

{{comment.Description}}

إضافة تعليق

;