logo

شروط الدَّعوة إلى الإصلاح

شروط الدَّعوة إلى الإصلاح

  • الشيخ محمد أرزقي الشرفاوي (رحمه الله)
  • 2023/11/16
  • 0 تعليق
  • 52 قراءة

تعريف بالكاتب الشيخ محمد أرزقي الشرفاوي رحمه الله

الشيخ محمد أرزقي الشرفاوي (1880-1945) عالم من علماء الجزائر من قرية شرفة بهلول بعزازقة من بلاد الزواوة، درس في زوايا المنطقة ثم في المدرسة الثعالبية في العاصمة، ثم التحق بالأزهر الذي تخرج منه بالشهادة العالمية بعد أن مكث فيه إحدى عشرة سنة، ولما رجع إلى الجزائر عام 1933 م التحق بركب الدعوة الإصلاحية، لكنه آثر العمل في بلاد الزواوة (القبائل) التي كانت أكثر تضررا بفساد الشرك والبدع والخرافات من العاصمة، واستقر معلما في معهد عبد الرحمن الإيلولي، وقد خلّف عدة مؤلفات منها: الخلاصة المختارة في فضلاء الزواوة وبغية الطلاب في علم الأصول وإرشاد الطلاب إلى ما في الآيات من الإعراب.

كما ترك مقالات عديدة نشرت في جرائد جمعية العلماء وغيرها، منها المقال الآتي:

شروط الدَّعوة إلى الإصلاح

هذه الجملة هي التي اخترْنا أنْ نَجعلها عنوانا لِمقالات مُتتالية، نُريد نَشرَها على صفحات البصائر، نُبيِّن بِها شروط الدَّعوة إلى الإصلاح، وهي ما تضمَّنه قول الله تعالى لرئيس المصلحين صلى الله عليه وسلم : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...} (النحل 125)، ومِن المعلوم أنَّ كلَّ أمرٍ متوجِّه إليه فهو متوجِّه إلى أمَّته، ما لَم يَقُم دليل على خُصوصيته به، وهُنا قام الدليل على أنَّ الدعوة إلى سبيل الرب عامةٌ لكلِّ أحدٍ.

ومِن المعلوم أنَّ الإصلاح لَه فروعٌ كثيرة ومسالكها متشعبةٌ مختلفة، والذي يعنينا الآن الإصلاح الديني، وهو لا يُتوصَّل إليه إلا بالعلم، فيلزم لأجل ذلك إصلاح التعليم الديني بالمعاهد الموجودة عندنا، وقد قُمنا بالنصيب الأوفر فيما أقامنا الله فيه مُعلِّما دينيا، والجهات التي اختلطنا بِمن فيها، ولكنْ كان ذلك قذًى في عيون أهل التخريف.

ولبيان شروط الدعوة إلى الإصلاح نقول:

يَجبُ على الداعي أنْ يكون عالِما تَمام العلم بطريق الله، وهو المراد بسبيل الرب في الآية، وبكلِّ الوسائل الموصلة إليه، وأنْ يكون عالِما بِمعنى الحكمة المطلوبة في الدعوة إليه، وهو العلم مع إتقان العمل، وهو أنْ يضع كلَّ شيء في موضعِه، ويعلمَ ما يترتَّب على عمله من خير أو شر، وأنْ يكون عالِما بأساليب الكلام ومناحيه، وبطرقٍ مختلفة في التعبير عن المقصود، وأنْ يتلطَّف في كلِّ ذلك بأنْ يَجتنَّب الألفاظ الجافة والعبارات الشنيعة، وكلِّ ما يوجب تنفير القلب وإثارة الشغب، قوي الحجة متين الدلالة، وهذا معنى الموعظة الحسنة.

وأنْ يكون بينه وبين الداعي الأصلي- وهو النبي صلى الله عليه وسلم- تَمام التناسب بالحكم في كلِّ شيء، وإنْ لَم يوجد تَمام التناسب في الكيف، وأنْ يكون خبيرا بأحوال المدعو لإصلاحه، وبأمراضه وبطرق علاجها، وهذا مُعتمَد القرآن في تخاطب الأمم، وأنْ يكون فوق مستوى من يدعوه للإصلاح علما وذكاء وفصاحة وبلاغة وعلو همة وعطفا وحنانا وجمالا في الظاهر والباطن؛ لأنَّه وارث الأنبياء، والقيِّم المُشْرف على من يأخذ بيده إلى سبيل الرب، وعلى هذا كان علماء الإسلام وحُماة الدين وقادة المفكرين عظماء المصلحين.

أولئك آبائي فجئني بِمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وقد كَثُر الأدعياء فأنكروا علينا كثيرا من الأحكام؛ هي صريح كتاب الله تعالى أو صريح السنَّة الصحيحة، أو هي عمل الصحابة والتابعين، جاهرنا بِها ولم نَخش في ذلك لومة لائم، فلم ينكروها وينتقدوها علينا بدليل من الأدلة المعتبرة، وإنَّما يقولون مضى فلان وفلان لم يفعلها، ولم يَحصل منه ذلك؛ هذا منتهى دليلهم، أو يقولون لم تَجر العادة بِها في بلدنا، فقل لي بربِّك أيُّها القاري هلْ يُلتفَتُ إلى استدلالهم بذلك، وهلْ كلَّفنا الله باتباع الرجال فيما خالفوا فيه صريح الأدلة الشرعية؟ وهل يَصِحُّ أنْ نَترُك حكما بدليل مِن تلك الأدلة لعادةٍ جارية؟!

كلا بل هذا عيْن الضلال، وإنَّما كلَّفنا أنْ نعمل بكتابه وسنَّة رسولِه، وما أجمعت (عليه)([1]) الأمة وما أنتجه القياس الصحيح، وليس للمؤمنين الحقيقيين من عادة إلا ما عوَّدهم عليه الدين، ولذلك أرى نفسي جذِلا كلما سمعت بانتقاد جائر ينزل علي أو على أحد من إخواني أو الطلاب في هذا الوقت، وكُلَّما كان الانتقاد أشدَّ جورًا كان الفرح أتم، والبشرى بالحياة السعيدة أوفر؛ لأنَّ الحُكم بشيء إذا لم يترتَّب على ما يتناسب معه؛ فقد عرَّض نفسه لأن تَهدمه العقول في أقرب وقت، وهو وإنْ أحدث أثرَه السيئ في وقت صدوره إنَّما هو ضررٌ موضعي، لا يصل بالجاهلين إلى الغاية، حيث لَم يُرتِّبوه على ما يتَّصل به، وقد جرَّبنا أنَّ الجاهل إذا رتَّب شيئا على شيء لم يترتَّب عليه؛ أحدث ذلك صورةً ذات أجزاء متفكِّكَة، وأقلُّ صورةٍ في الوجود يَجب أن تكون أجزاؤها مُتؤاخذة مُتماسكة وإلا حدثَ فيها الفساد، وليس هذا خاصا بالصوَر الطبيعية بل يَعُمُّ الصوَرَ القولية كالشعر والنثر، ويَعُمُّ الآثار التي تَحدث في الصور العقلية كالإصلاح والقوانين، ومن هذا المعني القرآن الكريم في تقنينه وأسلوبه.

ولو اشتغل الأدعياء بتفهيم القرآن والسنة، وعلَّموا ما فيهما من الأحكام والحِكم لأبرزوا الدين في أجمل صورةٍ، ولكن للأسف تركوا ذلك فانتشرت بينهم الخرافات، إذ الخرافات مِن أكبر عوارض جهل الأمم، فتسلَّط عليهم الوهم والخيال فعدُّوا الحق باطلا والباطل حقا، فأبرزوا الدين في أبشع الصور وشوهوا جميل حقيقته بالخزعبلات وتنازعِ البقاء، ويا ليتهم قصَروا ذلك على أنفسهم، ولكن ظلموا غيرهم مع ظلمهم أنفسَهم، وغرُّوهم بِما اشتغلوا به مِن قشور العلم والصور المفكَّكة من الفقه والنحو والتهَيُّءِ بِهَيْئة العلماء، ومِمَّا زاد الطين بِلة أنْ يتعرَّضوا لِمن رُبِّي على العلم الصحيح والاعتقاد الحق بالطعن بالفسق والزندقة والكفر، إذا خالفهم في عوائدهم وهيئاتهم ظنا منهم أنَّ ذلك هو الدين، ولو كان المخالف ممتلئ القلبِ إيمانًا وحكمةً. واللهم إنَّ هذا بهتان عظيمٌ، فأدرِك عبادَك بلطفِك الخفِّي إنَّك على كلِّ شيء قدير.

_______________

نُشر المقال في البصائر العدد 104 من السلسلة الأولى بتاريخ 16 محرم 1357 الموافق لـ 18 مارس 1938.

تعليقات

{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}

{{comment.Description}}

إضافة تعليق

;