logo

مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد وأصحابه بحضرة المعتصم (2)

مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد وأصحابه بحضرة المعتصم (2)

  • اللجنة العلمية لموقع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
  • 2023/11/16
  • 0 تعليق
  • 48 قراءة

قال: فلمّا كان في اليوم الثّاني أُدْخِلْتُ عليه، فقال: ناظروه .. كلموه.

قال: فجعلوا يتكلّمون .. هذا من ها هنا، وهذا من ها هنا، فأرد على هذا وهذا، فإذا جاؤوا بشيءٍ من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا فيه خبر ولا أثر قلت: ما أدري ما هذا!

فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وَثَبَ وإذا كلمناه بشيءٍ يقول: لا أدري ما هذا!

قال: فيقول: ناظروه.

قال: ثمّ يقول: يا أحمد إنّي عليك شفيق.

فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله!

قال: فقلت له: ما تقول في قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ? لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ{ [النساء: 11]؟

فقال: خصَّ اللهُ بها المؤمنين.

قال: فقلت له: ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلًا عبدًا يهوديّ أو نصرانيّ؟

قال: فسكت.

قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا؛ لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن، وبقوله أراك تنتحل الحديث.

وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك.

ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام، وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير، وفي خلال ذلك يقول لي: ندعو أحمد بن أبي دؤاد؟ فأقول: ذلك إليك. فيوجه إليه، فيجيء، فيتكلم، فلمّا طال بنا المجلس قام، ورُدِدْتُ إلى الموضع الّذي كنتُ فيه، وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس، فجعلا يتكلمان، فدار بيننا كلام كثير، فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعامٍ على نحو ممّا أُتِىَ به في أول ليلة، فافطرا، وتعللتُ، وجعلتْ رُسُلُهُ تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحوٍ ممّا كان أول ليلة، وجاءني ابن أبي دؤاد فقال: إنه قد حلف أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.

فقلت له: فما أصنع!

حتّى إذا كدتُ أن أُصبح قلتُ: لخليق أَنْ يَحْدُثَ مِنْ أمري في هذا اليوم شيءٌ، وقد كنتُ أَخْرَجْتُ تكتي من سراويلي فشددتُ بها الأقياد أحملها بها إذا توجّهت إليه، فقلتُ لبعض مَنْ كان مع الموكلين: ارتَدْ لي خيطًا، فجاءني بخيطٍ، فَشَدَدْتُ الأقيادَ، وأعدْتُ التكة في السّراويل، ولبسته كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى.

فلمّا كان في اليوم الثّالث

 أُدْخِلْتُ عليه والقوم حضور، فجعلت أُدْخَلُ مِن دارٍ إلى دارٍ، وقوم معهم السيوف، وقومٌ معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح، وقد حَشَرَتِ الدّارَ الجندُ، ولم يكن في اليومين الماضيين كثيرُ أحد من هؤلاء.

حتّى إذا صِرْتُ إليه قال: ناظروه .. كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم، ودار بيننا كلام كثير، حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه جاءني، ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نَحَّاهُم ودعاني فخَلا بي وبعبد الرّحمن، فقال لي: ويحك يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني!

فقلتُ: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم!

فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعتُ فيك .. خذوه فاسحبوه.

قال: فأُخِذْتُ، وسُحِبْتُ، ثمّ خُلعت، ثمّ قال: \"العقابين [وهما خشبتان يُشَقُّ الرجلُ بينهما للجَلْد] والسياط\"، فجيء بالعقابين والسياط.

قال أبي: وقد كان صار إلىّ شعرة أو شعرتان مِن شَعْرِ النّبي صلى الله عليه وسلم، فصررتهما كم قميصي، فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كُمِّ قميصي، فوجه إليّ: ما هذا مُصَرٌّ ورنى كمك.

فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم. وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين.

فقال لهم - يعني المعتصم -: لا تحرقوه، انزعوه عنه.

قال: إنّي ظننت أنه درأ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه.

ثمّ صُيِّرْتُ بين العقابين، وشُدَّت يدي، وجيء بكرسيّ، فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حَضَر، فقال له إنسان ممّن شدني: خُذْ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما. فلم أفهم ما قال، فتخالفت يداي لما شُدَّت ولم أُمْسِك الخشبتين.

قال أبو الفضل: ولم يزل أبي - رحمه الله - يتوجع منهما إلى أَنْ تُوُفِّيَ.

ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال: ائتوا بغيرها، ثمّ قال لهم: تقدموا.

فقال لأحدهم: أدنه، أوجع قطع الله يدك.

فتقدم، فضربني سوطَيْن ثمّ تنحى، ثمّ قال لآخر: أدنه، أوجع شدّ قطع الله يدك، ثمّ تقدم فضربني سوطَيْن ثمّ تَنَحَّى.

فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى، ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به، فقال: ويحك يا أحمد تَقْتُلُ نَفْسَكَ .. ويحك .. أجبني حتّى أُطْلِقَ عنك بيدي.

فجعل بعضهم يقول لي: ويلك إمامك على رأسك قائم!

وقام لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول: ويحك .. الخليفة على رأسك قائم!

قال: ثمّ يقول بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي .. اقتله.

قال: ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ، ثمّ قال للجلاد: أدنه، شدّ قطع الله يدك.

ثمّ لم يزل يدعو بجلادٍ بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول: شدّ، قطع الله يدك

ثمّ قام إليَّ الثّانية، فجعل يقول: \"يا أحمد أجبني\"، فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول: مَنْ صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعتَ! هذا يحيى بن معين، وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل .. وجعل يعدّ عَلَيَّ مَنْ أَجَابَ.

قال: وجعل وهو يقول: ويحك أجبني.

قال: فجعلتُ أقول نحو ما كنت أقول لهم.

قال: فرجع، فجلس، ثمّ جعل يقول للجلاد: شدّ قطع الله يدك.

قال أبي: فذهب عقلي، فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد، وقال لي إنسان ممّن حضر: إنَّا أكببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية [الحصير المنسوج] ودُسْنَاكَ.

قال أبي: فقلت ما شعرتُ بذاك!

قال: فجاؤوني بسَوِيْقٍ. فقالوا: اشرب، فقلت: لا أُفطر، فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم.

قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر.

وقال ابن سماعة: صليتَ والدّم يسيلُ مِنْ ضَرْبِكَ!

فقلتُ: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا .. فسكت.

ثمّ خُليَ عنه، فصار إلى المنزل، ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه، فنظر إليه فقال: قال لنا: والله لقد رأيتُ منه ضرب السيوط ما رأيتُ ضربًا أشدَّ مِنْ هذا، لقد جر عليه مِنْ خلفه ومِنْ قدامه، ثُمَّ أدخل مَيْلًا في بعض تلك الجراحات، فقال: لم ينفل، فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة، ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك، فبرأ منه، ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضّربِ بَيِّنًا في ظهره إلى أن تُوُفّي - رحمه الله -.

[ينظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء: 11/ 243- 252]

تعليقات

{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}

{{comment.Description}}

إضافة تعليق

;