logo

مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد وأصحابه بحضرة المعتصم (1)

مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد وأصحابه بحضرة المعتصم (1)

  • اللجنة العلمية لموقع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
  • 2023/11/16
  • 0 تعليق
  • 50 قراءة

قال صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل (ت: 265هـ): في كتابه \"ذِكْر مِحْنَة أبي إسحاق المعتصم لأبي - رحمه الله\":

قال أبي - رحمه الله -: لما كان في شهر رمضان سنة تسع عشرة (أي ومائتين) حُوِّلْتُ من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّدٌ بقَيْدٍ واحدٍ يوجِّهُ إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي -وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام- يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دُعِيَ بقيدٍ فقُيِّدْتُ، فمكثتُ على هذه الحال ثلاثة أيّام، وصار في رجلَيَّ أربعة أقياد؛ فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلاٍم دار -وسألته عن علم الله- قال: عِلْمُ الله مخلوق.

قلتُ: كفرتَ بالله.

فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قِبَل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.

قال: فقلتُ: إنَّ هذا قد كَفَرَ وكان صاحبه الذي يجيء معه خارج، فلمّا دخل قلتُ: إنَّ هذا زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ الله مخلوقٌ، فنظر إليه كالمنكِر عليه، قال: ثمّ انصرف.

قال أبي: وأسماء الله في القرآن، والقرآن مِن عِلم الله، فمَنْ زَعَمَ أَنَّ القرآن مخلوق فهو كافر، ومَنْ زَعَمَ أَنَّ أسماءَ اللهِ مخلوقة فقد كَفَرَ.

قال أبي: فلمّا كان في الليلة الرّابعة بعد العشاء الآخرة وجَّه المعتصم \"بغا\" [وهو قائد عباسي عسكري تركي الأصل أُوكِلَت له مهام عدة) إلى إسحاق يأمره بحملي، فأُدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد إنها والله نفسُك .. إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربًا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس .. أليس قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] أفيكون مجعولًا إلا مخلوقًا!

قال أبي: فقلت: فقد قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5] أفخلقهم!

فقال: اذهبوا به.

قال أبي: فأُنزلت إلى شاطئ دجلة، فأُحدرتُ إلى الموضع المعروف بِـ\"باب البستان\" ومعي \"بُغا الكبير\" ورسول من قِبَل إسحاق؛ فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون مِنْ هذا؟

قال: يريدون منه أن يقول \"القرآن مخلوق\".

فقال: ما أعرف شيئًا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأنَّ محمّدًا رسول الله وقَرَابَة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أُخرجت من الزورق، وحُملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني، فجعلتُ أكادُ أَخِرُّ على وجهي، حتّى انتُهِىَ بي إلى الدّار، فأُدخلت، فصُيِّرت في بيت منها، وأغلق عليّ الباب، وأقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل، وليس في البيت سراج، فاحتجتُ إلى الضّوء، فمددت يدي أطلب شيئًا فإذا بإناءٍ فيه ماء وطست، فتهيأتُ للصّلاة، وقمتُ أصلي، فلمّا أصبحتُ جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا المعتصم جالس وابن أبي دُؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غَاصَّة بأهلها، فلمّا دَنَوْتُ منه سَلَّمْتُ، فقال: \"أدنه .. أدنه\".

فلم يزل يدنيني حتّى قربتُ منه، ثمّ قال لي: \"اجلس\"، فجلستُ وقد أثقلتني الأقياد، فلمّا مكثتُ هنيهة قلتُ: تأذنُ في الكلام.

قال: تكلم.

قلتُ: إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله.

قال: ثمّ قلت: إنَّ جَدَّكَ - ابنَ عبّاس - حكى أنَّ وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه - تعالى - فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: شهادة أن لا اله إلّا الله، وأن محمّدًا رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان، وأن تُعطوا الخُمس مِن المغنم.

قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت ابن عبّاس - رضي الله عنه - قال: \"إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان ...\" فذكر مثل ذلك.

قال أبو الفضل (صالح بن أحمد بن حنبل): قال أبي: فقال لي عند ذلك: لولا أنّي وجدتُكَ في يَدِ مَنْ كان قَبلي ما عَرَضْتُ لك.

ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أَنْ تَرْفَعَ المحنة!

قال أبي: فقلتُ في نفسي: \"الله أكبر .. إنَّ في هذا لَفَرَجًا للمسلمين\".

ثمّ قال: \"ناظروه، وكلموه\".

ثمّ قال: \"يا عبد الرّحمن كَلِّمْهُ\".

فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟

قلتُ: ما تقولُ في علم الله.

قال: فسكت.

قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأردُّ على هذا، ثمّ أقول: \"يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك\".

فيقول لي ابن أبي دؤاد: وأنتَ لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله\".

فقلتُ له : \"تأولتَ تأويلًا فأنتَ أعلمُ وما تأولتَ .. ما يُحْبَسُ عليه ويُقَيَّدُ عليه\"!

فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين، وهؤلاء قضاتُك والفقهاء فسَلْهُمْ.

قال: فيقول لهم: ما تقولون؟

فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ.

قال: فلا يزالون يكلموني.

وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسانٌ منهم: قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] فيكون محدثًا إلّا مخلوقًا!

فقلتُ له: قال الله تعالى: {ص ? وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فالذكر هو القرآن .. ويلك أوليس فيها لا ألف ولا لام!

قال: فجعل ابن سمّاعة لا يفهم ما أقول.

قال: فجعل يقول لهم: ما يقول؟

قال: فقالوا: إنه يقول كذا وكذا.

فقال لي إنسان منهم: حديث خَبَّاب: (يا هنتاه تَقَرَّبْ إلى الله بما استطعتَ فإنك لن تتقرب إليه بشيءٍ أحب إليه من كلامه).

قال: فقلت: نعم هكذا هو.

قال: فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظًا عليه.

فقال بعضهم: أليس قال: {خالق كل شيء}!

قلت: قد قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} فدمَّرَتْ إِلَّا ما أراد الله!

فقال لي بعضهم فيما يقول -وذكر حديث عِمْرَان بن حُصَيْن: إِنَّ الله - تبارك وتعالى - كَتَبَ الذّكر- فقال: إنَّ اللهَ خَلَقَ الذّكْرَ.

قال: فقلتُ هذا خطأ، حدثنا غير واحد: \"كَتَبَ الذّكْرَ\".

قال أبي: فكان إذا انقطع الرجلُ منهم اعترض ابنُ أبي دُؤاد يتكلّم، فلمّا قارب الزّوال قال لهم: قوموا، ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن، فجعل يقول لي: أَمَا كُنْتَ تَعْرِفُ صَالِحَ الرّشيديّ كان مؤدبي، وكان في هذا الموضع جالس -وأشار إلى ناحيةٍ من الدّار- قال: فتكلم وذكر القرآن، فخالفني، فأمرتُ به، فسُحِبَ ووُطِئَ، قال أبي: ثمّ جعل يقول لي: ما أعرفك .. ألم تكن تأتينا!

فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازمٌ لمنزله.

قال: فجعل يقول: والله إنه لفقيه، وإنه لعالم، وممّا يسرني أن يكون مثله معي يردُّ عني أهلَ المِلَلِ، وَلَئِن أجابني إلى شيءٍ له فيه أدنى فَرَج لأُطْلِقَنَّ عنه بيدي، ولأُوطئَنَّ عَقِبَةُ ولأركَبَنَّ إليه بجندي.

قال: ثمّ التفت إليّ فيقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟

قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة ورسوله.

فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام، فرُدِدْتُ إلى الموضع الّذي كنتُ فيه، ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما - وهما صاحب الشّافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد - يناظراني فيقيمان معي، حتّى إذا حضر الإفطار وجَّهَ إلينا بمائدةٍ عليها طعامٌ فجعلا يأكلان وجَعَلْتُ أَتَعَلَّلُ حتّى رفع المائدة، وأقاما إلى غَدٍ، وفي خلال ذلك يجيُء ابن أبي دؤاد فيقول لي: يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول؟

فأقول له: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به.

فقال لي ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه -والله- ليس هو السّيف .. إنه ضرب بعد ضرب، ثمّ يقول لي: ما تقول؟ فأرد عليه نحوًا، ثمّ يأتي رسولُه فيقول: أين أحمد بن عمار؟ أجب للرجل الّذي أُنزلت في حجرته، فيذهب، ثمّ يعود فيقول: يقول لك أمير المؤمنين ما تقول؟

فأرد عليه نحوًا ممّا رددتُ على ابن أبي دؤاد، فلا يزال رسله تأتي، قال أحمد بن عمار -وهو يختلف فيما بيني وبينه- ويقول: يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى أجيءَ فأُطْلِقُ عنك بيدي.

قال: فلمّا كان في اليوم الثّاني أُدْخِلْتُ عليه ... .... .. (وللمناظرة بقية بإذن الله تعالى).

[ينظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء: 11/ 243- 252]

تعليقات

{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}

{{comment.Description}}

إضافة تعليق

;