شكوك المستشرقين حول تدوين السنة النبوية
- اللجنة العلمية لموقع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
- 2023/11/16
- 0 تعليق
- 109 قراءة
حين يراجع الباحث كتابات المستشرقين يجد أَنَّ موقفهم من السُّنَّة هو جزء من موقفهم من القرآن، حيث وجهت إليها سهام الشبهات والشكوك، ونعرض هنا واحدة من هذه الشبهات والرد العلمي عليها.
أصل الشبهة:
تتركز شكوك المستشرقين في السنة حول تأخر تدوين الحديث، فهم يرون أن تأخر تدوين الحديث الذي بدأ في المائة الثانية للهجرة أعطى فرصة للمسلمين ليزيدوا وينقصوا في الحديث وفي وضع أحاديث لخدمة أغراضهم؛ فقد شكك إغناس غولدتسيهر - وهو مستشرق يهودي - في صحة وجود صحف كثيرة في عهد الرسول، راميًا من وراء ذلك إلى إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدور، وهو يرمي أيضًا إلى وصم السنة بالاختلاق والوضع على ألسنة المدونين، وهو يزعم أن هؤلاء المدونين لم يجمعوا من الأحاديث إلا ما يوافق هواهم!
ويرى ألويس شبرنجر - وهو مستشرق نمساوي - في كتابه \"الحديث عند العرب\" أن الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني، وأن السنة انتقلت بطريق المشافهة، وهو ما يطعن في مصداقيتها وحُجِّيَّتها!
أما المستشرق الهولندي رينهارت دوزي فهو ينكر نسبة هامة من الأحاديث إلى الرسول، ويطلق عليها \"التركة المجهولة\"!
وهذا المغالطة التي أثارها المستشرقون جاءت من طريقين:
الأول: أن عامة المؤرخين يضطرون إلى ذكر مدوني الحديث في القرن الثاني فما بعده، ولا يهتمون بذكر هذه الصحف والمجاميع التي كُتبت في القرن الأول، لأن عامتها فُقِدَت أو ضاعت أو اندمجت في المؤلفات المتأخرة.
الثاني: أن المحدثين يذكرون عدد الأحاديث الضخم الهائل الذي لا يتصور أن يكون في هذه المجاميع الصغيرة التي كتبت في القرن الأول؛ مع أن عدد الأحاديث الصحاح غير المتكررة المتحررة من المتابعات لا يزال قليلا.
فحديث \"إنما الأعمالُ بالنياتِ\" - مثلا - يروى من سبعمائة طريق، فلو جردنا مجاميع الأحاديث من هذه المتابعات والشواهد لبقي عدد قليل من الأحاديث.
فـالجامع الصحيح للبخاري لا يزيد عدد أحاديثه عن ألفين وستمائة وحديث، وأحاديث صحيح مسلم يبلغ عددها أربعة آلاف حديث. ومعظم هذه الثروة الحديثية قد كُتب ودونت بأقلام رواة العصر الأول، وقد يزيد ما حُفِظَ في الكتب والدفاتر كتابة وتحريرًا في العصر النبوي وفي عصر الصحابة على عشرة آلاف حديث إذا جُمعت صُحف ومجاميع أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
والرد التفصيلي على هذه الشبهة يكون من وجوه، كالتالي:
1/ ثبت أن الصحابة كانوا يكتبون السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - بخلاف ما يعتقده هؤلاء المستشرقون - ومن هذا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: \"لما فَتَحَ اللهُ على رسولِ صلى الله عليه وسلم مكةَ قام في الناسِ، فحَمِدَ اللهُ وأثنى عليه...، فقام أبو شاهٍ...، فقال: يا رسولَ اللهِ اكتُبوا لي، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاهٍ\". [البخاري)1434(، مسلم (1355)].
ومثله كذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: \"كنتُ أَكتُبُ كلَّ شيءٍ أَسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرَيشٌ، وقالوا: أَتكتُبُ كلَّ شيءٍ تَسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟ فأَمسَكْتُ عن الكِتابِ، فذَكَرْتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَوْمأَ بأُصبُعِهِ إلى فيه، فقال: اكتُبْ؛ فوالَّذي نفْسي بيدِهِ ما يَخْرُجُ منه إلَّا حقٌّ\"[ صححه الألباني في صحيح أبي داود(364)]
2/ الصحابة بدأوا في تدوين الحديث في عهد النبي، وكانت هناك مجموعات من الأحاديث لعدد من الصحابة منها \"الصحيفة الصادقة\" لعبد الله بن عمرو بن العاص، وكان لعلي بن أبي طالب صحيفة، وكان لأنس ولعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله لكل منهم صحيفة.
فإذا جمعت هذه الصحف والمجاميع كونت العدد الأكبر من الأحاديث التي جمعت في الجوامع والمسانيد والسنن في القرن الثالث، وبذا يتحقق أن المجموع الأكبر من الأحاديث سبق تدوينه ونسخه من غير نظام وترتيب في عصر الرسول وفي عصر الصحابة.
ومما يؤكد أن بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تدون في العصر الأول ما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام مكتوبة إلى عُمَّاله مثل ما جاء عن عبد الله بن عُكَيْم الجُهَني قال: \"قرأ علينا كتاب رسول الله أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب \" [صححه الألباني في تخريج مشكلة المصابيح (485)].
3/ كان للصحابة رضي الله تعالى عنهم عناية شـديدة في رواية الحديث ونقله، فقد ذكر البخاري في كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم \"أن جابر بن عبد الله الأنصاري رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد\".
وقال أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: \"إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو:} إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ{ (البقرة:159) \"إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ\"[ البخاري(115) ومسلم(6552)].
4/ وضع الصحابة بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وإن لم تدون في عصرهم ومن تلك الضوابط .
أـ الاحتياط في قَبول الأخبار:
كان أول من احتاط في قبول الأخبار أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد \"جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍالصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ لَهَا أَبُوبَكْرٍ مَالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَاعَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُوبَكْرٍ:هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَاقَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَاأَبُوبَكْرٍالصِّدِّيقُ. ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ لَهَا مَالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ ذَلِكَ السُّدُسُ فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَلَهَا\" [حسنه البغوي في شرح السنة (4/464)].
ب ـ التوقف في خبر الواحد والتثبت من نقله :
ومن ذلك ما روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:\" كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ. فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ. أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ. فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ ذَلِكَ\" [البخاري(5776) ومسلم (5751)].
ج ـ اشتراط اللقيا والسماع :
سبق حديث جابر بن عبد الله ورحلته إلى عبد الله بن أُنَيْس في طلب حديث واحد، وفى ذلك إشارة إلى أسبقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى شرط اللقيا والسماع بين الرواة للتثبت من صحة الحديث .
فتلك الضوابط التي سبق إيرادها إنما تشير إلى مدى اهتمام الصحابة رضوان الله تعالى عنهم برواية الحديث والعناية به وصيانته.
5/ \"حرص الصحابة على حفظ حديث رسول الله ونقله وحرص التابعين وتابعي التابعين فمن بعدهم، على نقل هذا الحديث وجمعه وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، حيث قام علماء السنة بجهود جبارة في تتبع الكذابين والوضاعين، وفضح نواياهم ودخائلهم، وبيان ما زادوه في السنة من أحاديث مكذوبة، حتى جمعت السنة في كتب صحيحة، وأشبعها النقاد بحثًا وتمحيصًا، ثم خرجوا من ذلك إلى الاعتراف بصحتها والتسليم بها\"[السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مصطفى السباعي، ص195]
\"ولم يعرف عن أمة من الأمم في التاريخ من التجول في البلاد والسفر، ولم يقتصروا على جمع الحديث وتدوينه بل تعدت عنايتهم إلى الوسائط التي وقعت في رواية الحديث وهم الرواة الذين رووا هذه الأحاديث، فعنوا بمعرفتهم ومعرفة أسمائهم وأسماء آبائهم وحوادث حياتهم وأخلاقهم ومكانتهم في الأمانة والصدق والحفظ، وهكذا ظهر علم أسماء الرجال إلى الوجود وكان من مفاخر هذه الأمة التي لا يشاركها فيها أمة من الأمم\".[ السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق، أنور الجندي، ص17].
تعليقات
{{comment.UserName}} {{comment.CreationTime | date : "MMM d, y - h:mm:ss a"}}
{{comment.Description}}
إضافة تعليق